حامد نحوله يكتب : الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها

3يناير 2023 .

الفتنة على ما أفهمها تبدأ شرارة يطيّرها ذوو مصلحة في المجتمع حتى تغدو ناراً مستعرة لا تبقي ولا تذر. فالفتنة بوابة واسعة تفضي ترهاتها إلى التدمير الشامل وتقضي على كل أسباب التنمية وتنشر معوقاتها. حدثت في المجتمعات، قديمها وحديثها، فتن كثيرة ليس المجال هنا لحصرها وذكرها. ولا أحسب أنّ لأحد له مصلحة في أن تكون الفتنة في كامل يقظتها في السودان في الوقت الراهن. ولعل الحديث عن الفتنة في العموم يحمل شيئاً من معالجة لها في الخصوصية السودانية. وبالرغم من أن الفتن التي حاقت بالمجتمع والمسلمين كثيرة، إلا أنّ ما صرف من جهدٍ في سبيل درئها ووأدها لقليل، ومن المعروف أن المجتمع من الشعوب المتكلمة، إلا أنهم لم يقولوا شيئاً كثيراً عن الفتنة، أو أنهم بالأحرى لم يتكلموا عنها بالقدر الذي هم مارسوها، وسطّروا مشاريع خرافية لتطييرها في المجتمع. وفي هذا الإطار أذكر قولاً لا أعرف لمن ينسب وكنت أتمنى لو أن أحداً لم يقله وهو «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها». وإذا سلمنا بأن الفتنة نائمة في بلادنا السودان، فهل أن نومها شيءٌ يبعث على الفخر، أم أن نومها هو قصور في المعالجة؟ أليس ذبح الفتنة ووأدها هو العلاج الناجع لهذا المرض الذي يعيق نمو المجتمع؟ الغريب في الأمر أن لا الحكم ولا الأقوال المأثورة استطاعت أن تفعل شيئاً ينتزع الفتنة من قلوب الناس، ويقتلعها كفكرة من رؤوسهم، ويجتث أسبابها من دروبهم، ويدمر البيئات التي فيها تترعرع. لقد ظلت الفتنة بمختلف سياقاتها نائمة معنا في مخادعنا تتحيّن فرصة أن نفتح أعيننا حتى تسبقنا في النهوض والخروج من باب الدار قبل خروجنا. الفتنة بالضبط مثل ما هي المؤامرة النائمة أبداً في عقولنا، نستحضرها بمجرد الشعور بالخطر لتدافع حكوماتنا القومية، والقومية المتحالفة مع الإسلاميين عن هوانها وضعفها أمام شعوبها. ألا يبدو لكم الفرق واضحاً بين الفتنة والمؤامرة، كما هو يبدو لي، وهو أن الفتنة تستحضرنا لنتشارك في إذكاء أوارها والمؤامرة نستحضرها للسبب الذي أسلفت. وحيث أنني لا أقول بأن إيراد المؤامرة باعتبارها سببا رئيسيا لانتكاساتنا وهزائمنا قد تراجع، فإنني في المقابل أحسب أن الباحثين في الشأن السياسي والعلوم الاجتماعية قد كشفوا عن أسباب رواج هذه النظرية حتى بات جلياً ضعف هذا الادعاء ومحرضاته وخفته وهو يطير في السماء العربية. فمثلاً يقول الباحث سعد الدين إبراهيم «إن التضخيم للقدرات الذاتية ثم الهزائم قاد إلى زرع بذور نظريات المؤامرة والعمالة والخيانة»، فماذا قلنا نحن عن الفتنة حتى نعري مواقف من يستند إليها كمشجب يُعلق عليه أسباب إخفاقاتنا في درء عوامل حدوثها أو استفحالها في مجتمعاتنا العربية، غير تلك المقولة المشهورة «الفتنة نائمة لعن الله من أيقظها»، فهل أن نوم الفتنة كفيلٌ بانسحابها من المشهد الاجتماعي؟ لماذا لم نساهم كلنا في ذبح الفتنة؟ لماذا تركناها كل هذا الزمن المديد كي تعتلي مداركنا وحواسنا ونحن عنها ساهون؛ لتغدو جُزءاً من مخبوء سلوكنا الكاره للآخر. نوم الفتنة حينما وقع فيما سبق أو أننا أوقعناه كان مجرد انسحاب مؤقت من دائرة الفعل فحسب، وليس انسحاباً كلياً من المشهد الاجتماعي. الفتنة أنواع، مثلما سبق وأن أشرت، ولكن أكثرها قوةً على تشطير المجتمعات وتفكيكها هي الفتنة الطائفية التي أصبحت العدو رقم واحد لتطور المجتمعات ووقف نموها. وعند الحديث عن الفتنة لا أعدم سبباً أسوقه لأقول بأن التورم المذهبي، والعصبية في اتجاه الظفر بامتلاك الحقيقة هو ما يقودنا إلى هذا المنحدر الخطير. وأظن أن أسباباً كثيرة تجعلنا نسأل مَن هو المسؤول عن ذلك؟ ما هي الفئة التي لها مصلحة في ذلك؟ لن أخفي إجابتي وأقول إنّ من يوقد نار الفتنة الطائفية ويلهب سعيرها هم أولئك الباحثون عن الشهرة في أوساط المتورمين المذهبيين في التيارات الإسلامية عموماً، هم وحدهم الذين لهم مصلحة في ذلك لإدامة هيمنتهم في المشهد الاجتماعي ومن ثم السياسي.

إذن، ما الذي علينا فعله إذا ما أردنا أن ننأى بمجتمعنا السوداني بعيداً عن أتون الفتنة التي تجرنا إليها هذه القوى؛ حتى يؤول إلينا زمام الريادة في مُحاربة الفتنة الطائفية المستزرعة بسواعد «وطنية» تحركها مكاسب آنية ضيِّقة.

في اعتقادي أن أولى أولوياتنا هي فتح حوار حقيقي بين مؤسسات المجتمع المدني عامة وبين الجمعيات السياسية التي تكرر القول دائماً إنها تمثل الناس بمختلف تحدراتها العرقية وانتساباتها الفكرية. أما ثانيهما، فهو إغلاق مسارب التمييز التي يسأل عنها أفراد بصفتهم الشخصية في الدولة، محسوبون على جمعيات سياسية دينية في الأصل، إذ أن القول إنّ التمييز «نهج» حكومي غير حصيف. كل حكومات العالم تسعى إلى الاستقرار، والاستقرار لا يتأتى إلا بإشاعة العدل والمساواة بين أفراد الشعب، وحكومتنا هنا ليست استثناءً من هذه القاعدة. وثالث هذه العلاجات المضادة للفتنة الطائفية هو العمل وفق حقوق المواطنة وواجباتها، والديمقراطية والمزيد من الديمقراطية، والإفادة من متاحات المشروع الإصلاحي الضخمة في تعزيز مخزوننا السوداني من التسامح في المجتمع، وفضح مسعى كل أفّاك في تحويل الديمقراطية إلى سب وشتيمة وتسقيط.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى