عبد الواحد عبد الله.. شاعر اليوم نرفع راية استقلالنا

وثق له : سراج الدين مصطفى
(1)
الكتابة عن عبقرية الفنان محمد وردي، هي بالضرورة كتابة عادية ومكرورة وربما لا تحمل جديداً، فالرجل قدم كل ما يؤكد على عبقريته وسطوته وتجاوزه، لذلك من البديهي أن تجده حاضراً في وجدان الشعب السوداني رغم الغياب، وسيظل رمزاً للتجديد والمثابرة في تقديم طرح غنائي لا يتلف مع الزمن، ولعل كل منتجات وردي الغنائية عليها ديباجة مكتوب فيها (صالح لكل الأزمان).. وأكثر ما يثير في محمد وردي هو قدرته على الشوف بعيداً،كفنان مستنير يفكر بذكاء خارق غير معتاد، ومن يستمع له يلحظ أن أغنياته لا تعرف التثاؤب ولا يصيبها الوسن، لذلك كل أغنية عند محمد وردي هي مشروع حياتي وفلسفي، لأن اختيار المفردة واللحن عنده يمر بفلترة دقيقة لذلك كل أغنياته باقية وخالدة، فهو غنى لكل المواضيع الحياتية في أغنياته المنتقاة بعناية وذكاء، فهو بغير الأغنيات العاطفية، كانت سطوته أعلى من حيث منتوج الأغنية الوطنية من (حيث الكم والكيف) في تزاوج وممازجة مدهشة كفلت له الريادة في مضمار الأغنية الوطنية.
(2)
أشتهر وردي بترديد الأغاني الوطنية ..حيث تغنى لهذا الوطن بعدد كبير من الأغاني الوطينة ولعل أبرزها نشيد (اليوم نرفع استقلالنا) وهو من أشهر الأغاني الوطنية التي وجدت حيزاً كبير من الانتشار والقبول المطلق، فعمر هذا النشيد حتي العام هذا العام تسعة و خمسون عاما بالتمام والكمال، حيث ظهر إلى الوجود عبر الإذاعة السودانية في 1/1/1961 أي قبل ظهور التلفزيون الذي بدأ بثه بالعاصمة فقط في العام 1963م حين كان الراحل اللواء محمد طلعت فريد وزيرًا للاستعلامات والعمل قبل أن تسمي لاحقاً بوزارة الإعلام، ثم تم إنشاء التلفزيون في الجزيرة ووصلها الإرسال في العام 1972م في عهد وزير الإعلام الراحل العميد (م) الأديب عمر الحاج موسى .
(3)
(نشيد الاستقلال) كان هو الأيقونة التي قدَّمها الدكتور الشاعر عبد الواحد عبدالله وأصبحت الأغنية الوطنية الأشهر والتي تبث في مطلع كل عام وأصبحت كذلك من الوجدانيات الوطنية للشعب السوداني، وشاعرها الدكتور عبدالواحد يوسف ولد منتصف عام 1939م في مدينة القضارف، التي انتقل إليها أهله من منطقة الزيداب حيث ينحدرون من قبيلة الجعليين .
(4)
ثم انتقل بعدها عبد الواحد عبدالله إلى مدرسة القضارف الأهلية الوسطى، والثانوي بمدرسة حنتوب حيث تلقى العلم على أساتذة مبدعين أمثال الشاعر الراحل الأستاذ الهادي آدم الهادي صاحب ديوان (كوخ الأشواق) الذي رعى موهبته الشعرية..وكان التحاقه بجامعة الخرطوم في العام 1959م فتحاً جديداً في حياته حيث تخرج فيها عام 1964م، ليعمل معيداً بمعهد الدراسات الإضافية .تقلب شاعرنا في المناصب داخل وخارج السودان حتى استقر به المقام، لسنوات خلت، في دولة البحرين مستشارًا لوزير التربية والتعليم .
(5)
الدكتور عبد الواحد عبدالله، عالم متخصص في علم التربية الذي نال فيه درجة الماجستير من إنجلترا والدكتوراة من كندا،عمل أستاذاً في جامعتي الخرطوم وزامبيا . وقضى أكثر من عشرين عاماً في منظمة اليونسكو، متنقلاً بين قارات العالم، حيث كان من كبار خبرائها ومستشاريها،أصدر ديوان قصائد في حب الناس والوطن صدر في طبعته الأولى عام2005 م نشره مركز عبدالكريم ميرغني في طبعة رشيقة.
(7)
وما يميزشعر الدكتور عبد الواحد السهولة والوضوح والخلو من التعقيد و التّكلف وهو كما قال عنه الأديب الطيّب صالح، شعر ليس صعب المنال على تذوّق القارئ حتى لو كان قارئاً عاديّاً وفي الديوان التأصيل لشعر سوداني يتناول موضوعات سودانية توظف فيها المفردات السودانية مما يدلّ على فهم الشاعر العميق لخصوصيّة السودان وثقافته والرغبة في إبرازها يشاركه في هذا المنحى رفيق دربه الشاعر الراحل صلاح أحمد إبراهيم الذي رثاه الشاعر في هذا الديوان بقصيدتين رائعتين.
(8)
يقول د.عبدالواحد عبدالله يوسف، إنه في سنة 1959 كان طالباً في جامعة الخرطوم وضمن تحضيرات اتحاد طلاب جامعة الخرطوم تم الإعلان عن أنه تم فتح باب المشاركات من الأدبية للطلاب ليشاركوا بها في احتفال الاتحاد بأعياد الاستقلال في الأول من ياناير 1960 يقول عبدالواحد جلست ليلتين أكتب تلك القصيدة وقدَّمتها للاتحاد وحازت على إعجاب المسؤلين .. فغناها كورال الاتحاد في الاحتفال .. وهاجت مشاعر الجميع طلاب ومسؤولين وحضور وفي مقدمتهم الفنان خضر بشير، الذي كان صديقاً لاتحاد طلاب جامعة الخرطوم وبعد ذلك قدمت الأغنية للفنان الشاب حينها محمد وردي، وقام بتلحينها وأداها في إذاعة أم درمان، وعندما قرر عبود (بيع) حلفا بالموافقة على بناء خزان ناصر في مصر وإغراق حلفا .. كان وردي في مقدمة المعارضين لهذا القرار .. فتم سجنه وحظرت جميع أغانيه وتسجيلاته إلى أن جاءت ثورة أكتوبر 1964م، المجيدة وفك الحظر عن الحرية والأحرارومنذ ذلك الحين … كل الشعب السوداني يغني في الأول من يناير
اليوم نرفع راية استقلالنا
ويسطِّر التاريخ مولد شعبنا
يا إخوتي.. غنوا لنا.. غنوا لنا..
يا نيلنا يا أرضنا الخضراء..
يا حقل السنا..
يا مهد أجدادي ويا كنزي العزيز المقتنى ..
كرري تحدث عن رجال كالأسود الضارية ..
خاضوا اللهيب وشتتوا كتل الغزاة الباغية ..
والنهر يطفح بالضحايا بالدماء القانية ..
ما لان فرسان لنا بل فر جمع الطاغية
وليذكر التاريخ أبطالا لنا عبد اللطيف وصحبه
غرسوا النواة الطاهرة
ونفوسهم فاضت حماساً كالبحار الزاخرة
من أجلنا ارتادوا المنون
ولمثل هذا اليوم كانوا يعملون
غنوا لهم يا إخوتي
فلتحيا ذكرى الثائرين
إني أنا السودان أرض السؤدد
هذي يدى ..
ملأى بألوان الورود قطفتها من معبدي
من قلب إفريقيا التي داست حصون المعتدي ..
خطت بعزم شعوبها آفاق فجر أوحد ..
فأنا بها وأنا لها سأكون أول مفتدي.
(10)
غير أن الأستاذ وردي ذكر بأن النشيد لم يسبق إيقافه من البث عبر الأجهزة في كل العهود، إلا في عهد الرئيس الراحل جعفر نميري في الأعوام 1971/1973 م حين كان وردي في المعتقل السياسي بسجن كوبر إثر فشل حركة الرائد الراحل هاشم العطا العسكرية، ثم إطلق سراح النشيد وبقية أعمال الأستاذ وردي مع نهاية العام 1973م إثر اجتماع سري بين الرئيس نميري ومحمد وردي بمبنى وزارة الإعلام وهكذا فإن شاعرنا د.عبد الواحد عبد الله يوسف يبقى علامة شعرية فارقة، بخلود قصيدته تلك.. وسيظل التاريخ يذكره دوماً في حالة من الحضور الذي لا يعرف الغياب.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى