إبراهيم أحمد الحسن يكتب:  عرف الشوق من شرحبيل

 

الشاعر عزام عبدالعاطي.. غياب بفعل الحضور

(1)

ارتاد دنيا الشعر مع أصحابه الشعراء الشباب نظموا الشعر نغماً مقفى، وحر بلا قيود من بحور شعرٍ شائكة فلا تسبح قوافلهم في بحر الخَبَب أو المُتَدَارَك ولا الطويل والبسيط والكامل ولا الوافر السريع المنسرح ولا المتقارب المقتضب ،فقط يختارون مفردات وسيمة وينسجون بها قصيدة. من هنا هؤلاء وعلى قارعة الطريق ابتدأ عزام يقرأ على المسامع ويسمع ، كان عزام حبة في منظومة العقد النضيد (لمنتدى التساب الأدبي)، قصائدهم في سخاءالتساب، لونها كالطمئ يحتضن بذرة النماء وينبت الخضرة في الأفياء، خضرة قصائدهم تنض عن حسن دفاق تبدأ بلون زينب، وتنتهي بلون الخضرة الدقاقة، اللون البهيج في المنتدى قد يأتي به عاطف شمبات أو الهادي النجومي نتاجهم قصائد مضمخة بعبير السمح والزين، بإمكانيات سودانوية بسيطة وسمحة تحت ظلٍ ترميه أغصان شجرة نيم ورقها الأخضر وريف.يجلس أعضاء المنتدى يحتسون الشاي ويشربون القهوة ويتنفسون الشعر، بلا تراتيبية أو طقوس ينعقد المنتدأ أسبوعياً لايهم أن جلس رامي منان جوار إبراهيم برنتر أو أن الذي بدأ في قراءة قصيدة جديدة هو نجم الظين أو خالد البشرى ، تتولى حواء المنتدى جودة النظم وحسن بيت القصيد، تأتي مرام أولاً ولا تقرأ قصائدها إلا عندما تفرغ ايمان الكاظم والتي قد تفسح (المكان ترحاب) لكوثر تجلس ولا يفوتها الاستماع ، وكوثر تقدم الشاعرة بالسجية رؤى بشير تستمع إلى شعر عزام بانشراح وابتسامة عريضة، تأتي المنتدى عزة الفكي، تنظر التنافس المحتدم. ثم تقرر أن الكاسب الأكبر هو منتدى التساب، وينال التساب ما يستحق من الثناء والتصفيق .

(2)

من هنا انطلقت موهبة عزام ، وصقلها بالمحاولة والتجريب من على كرسي (حارنا) ست الشاي، نهض عزام يعالج قصائده الجياد وأسرعت مركبه تبحر في القصيد بلا قوالب أو بحور .. جذور عزام تضرب في أعماق الأرض المعطاء هناك في العفاض عندما يغير النيل اتجاه عرقه إلى الشمال ثانيةً، جينات عزام تغوص عميقاً في جغرافيا النيل هذه بتضاريسها العجيبة وظواهرها الكونية المتفردة.

رمال الطريق إلى أم درمان تمتد في الدرب طويلاً أمامه تكحل أهدابه ويرى فيها السودان ماثلاً أمامه.يبدأ قصيدة عند الخضرة والماء والشعر الحسن، تولد عند جذع نخلة تساقط نحوه رطباً جنياً من الهام. تتحسس النخلة جيناته، تواصل الجود ولا تبخل ويبادلها عزام الحب قصيدة.

أم درمان عاصمة (زمن الأفراح الوردية) محبوبة سيف الدسوقي هي الأخرى دوزنت دواخل عزام وضبطت إيقاعه على الموجة المتوسط في هنا أم درمان وشرب من دنها ما جعله يغشى مجالس (التساب) ويقرض الشعر .. عند بوابة عبد القيوم وبيت الخليفة والأزهري أناخ زاملة شعره،وراح يكتب.

(3)

عند الجزيرة الخضراء حيث القناطر والجداول والترع تتفتح زهرة القطن وتشرع البيوت أبوابها بالترحاب كله، وتتفتق موهبة عزام عند ناصية الحقل يتأمل زهرة قطن تتفتح يافعة ويانعة. هناك نصب مغزله وشاد نوله وشد خيوط انطلاق القصيد وطفق ينسج قصيدة وراء أخرى إلى تلك التي قال فيها : ( تعالي إلى مسمع الغيم صوت الوصول/صهيل حنين كبا واختبا خلف حلق الهيام) ..

لم يك محض منتدى التساب هو الذي أوحى لعزام هذه القصيدة الفارهة، لم تك جلسة القهوة عند (حارنا) وحدها ما جعل مبتدأ القصيدة خبر يختبئ خلف فنجانٍ للقهوة، شئ عميق تحسه،تحسسه ولا تتبين موضعه هو الذي جعل عزام يجئ بقصيدة فيها ما فيها ، كلما تغوص فيها تكتشف أنك لم تقرأ من قبل شعراً، كلما تتأمل تعابيرها المتمردة حد الجنوح مفرداتها الهادئة حد السكون، وكلما تنقب في القصيدة بحثاً عن المخبؤ من لفظ البلاغة والبيان تكتشف أنك أمام شاعر مجيد، خطير الشأن ينظم ببساطة شعر يقول فيه عند حضرة المنتدى وحارنا 🙁 بالريدة غايتو بشوف عيونك فيها ../كيف ؟/ما تسأليني ../بس اعبري الدم تلقي بن ../وقصيدة ../وأنتي ..) يمضي عزام في قصيده ويقول (جني قهوة ..) وينداح (ياخالية من سكر ../وحلوة ../وياطبيعية الملامح ../واستوائية الأحاسيس ../يا حميمة .. /ومستقيمة .. /ومستفيضة الشوق ../ومأمونة الحنين ../أنا جني قهوة ..).

(4)

ماذا أنا قائل في حضرة (جني قهوة) هل أسأل مثلما تساءل عزام، أم أمضي بالقصيدة إلى آخر تطوافها، عليّ أن اختار !! واخترت ما اختاره عزام .. اخترت أن أتساءل كما فعل هو 🙁 قايلة ساي أنا جني قهوة ؟) هل الجم السؤال هنا وأمضي مع عزام إلى آخر القصيد مشياً على (الأشواق ) وأغني معه ( الفي عيونك من بريق/ ريد ../كان علي الريق احتسيتو/ ولسه في حسنك غريق/جني قهوة)

اللغط الكبير والجدل حولها الذي نالته رباعية نسج نولها عزام عبدالعاطي، يقول عنها إنه نشرها على صفحته في الفيسبوك ، أخذها عنه أحدهم وقام بإعادة بثها ثم تداولها آخرون منسوبة إلى شاعر الحقيبة الكبير محمد ودالرضي، قال عزام قطع أخضر نسج خياله( شالو حلوقن أدوهن قصيبات رقّن/ وشالو خدودن أدوهن ورود اتسقّن/ بدل عينيهن أدوهن كهارب بقّن/وأنا من الريده ما أدونى غير اتيقّن/ جن واردات وشقّن/ قلبي شيشن شقّن/ أنا جنيت وكت نسّام عطورن طقّن/ شافن حالي وضحكن قر وقعدن نقّن/ أرمي الدمعة فوق الدمعة وهن يتلقّن/ وين الطرفو ناعس وطرفي ليهو محقّن/ وين الفاطرو في شان خاطرو أموت وتلقّن/ الناس همها العيشة وهدوم ودلقّن/ وأنا المكتول هوى المن حور الجنان اتنقّن ).

ويسير عزام على الماء وحده في قصيدة عميقة سار فيها على الماء وقال: إن روحه طفت ثم هامت والمجرات ترامت،عزام يخض السير على الماء يتساءل كشاعر استحضر دهشة من القراء ، ما تلك التي بيمينك : (قُلْتُ : مَا ذِي/بِيَمِينِي ؟/ قَالَ : قَلْبُكَ/ قُلْتُ : إحْلِف /فإذا بالمَاءِ يَخْفُقْ/وإذا بالصَّوْتِ يَعْلُو/وإذا بالصَّدْرِ يَغْلْي/قُلتُ : قَدْ أثْقَلتَ نَعْلِي قَالَ لِيْ : لَسْتَ لِوَحْدِكَ/ ألْقْ هَذِي /تُثْقِلُ المَاءَ/ ظَنَنْتُ المَاءَ يَهْذِي/قَالَ : واخْلَعْ عَنْكَ هَذا)

(5)

سيراً على ما رواه حميد (ﺃﻣﻼ ﻗﻠﺒﻚ ﺑﺎﻟﻮﻃﻦ) وعلى نظم الخليل (عزة ما سليت وطن الجمال) على ذات النهج والمنوال جد النظم عزام، أبدع حين قال ( عازة قومي كفاك الهيافة/ في الولاد البسندو الحيل/ في الشوارع بقت هتافا/ شدي حيلك باقي القليل /في صحيح الثورة وصحافا/عن عمر عن حِمِّيد عن خليل/عازة فاتوك هن في الوصافة/يالمكانك قدامن دليل /داير أشوفك سمحة وقيافة/نيلك يروي وجوِّك عليل/بابك المفتوح للضيافة/حوشك المبهول المهيل/ بيتك المأهول بالطرافة/ ضلك الممهول الظليل/ في ربوع أم در الظرافة/ وقهوة في كسلا وجنزبيل/ في جنوب دارفور الزرافة/ ترمي شبالين للنخيل/ مصطفى يغنيك المسافة/ وتعرفي الشوق من شرحبيل/ داير اشوفك واقعك معافى/ أم دا أمراً دُبِّر بليل ؟؟/حبي ليك بهذي الكثافة ../ ردي لي من هذا القبيل ..) من هذه النافذة حيوا معي عزام عبدالعاطي ورفقائه الشباب وهم ينسجون على نول الإبداع ظل للبلد ممهول وظليل، ويرسمون في فضاء الوطن قصائد تقاوم الغياب، وتؤكد الحضور قائلين ( أليس الغياب إياب / على شكل أني افتعلت الغياب / بفعل الحضور ).

 

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى