إبراهيم أحمد الحسن يكتب: كان يمشي بين الناس بلا مواربة ولا حجاب.. عيسى بروي.. سمح لونو  وسمح رسمو  وسمح ذوقو

إبراهيم أحمد الحسن يكتب: كان يمشي بين الناس بلا مواربة ولا حجاب.. عيسى بروي.. سمح لونو  وسمح رسمو  وسمح ذوقو

(1)

الفنان المبدع عيسى بروي (منصوري قح) رغم أنني لا أحب و لا أشجع التصنيفات القبلية والجهوية  إلا من منظورها الإيجابي الذي يجمع ولا يفرق، مثل الذي تغنى به عيسى (أنا من أعز ديار أنا / منصوري موقد نار أنا / ما أنا الجبان وضعيف بعجب وأكيف كيف أنا / ونوعية نادر نوع أنا / وبحلف يمين مدفوع أنا)، تربع عيسى بروي  على عرش فن الدليب بنكهة إيقاع سريع شكلت إضافة مميزة يام الزمن الجميل وأصبح عريسه الذي يشار إليه بالبنان في ثمانينات القرن الماضي، و فوق ذلك تميُّز بقرض سحر بيان بعض من أغنياته.

عيسى بروي

(2)

من الأغنيات التي أسرتني وآثرتها كثيراً وطويلاً أغنية (زينوبة) والتي صاغ كلماتها وألحانها على نوتة موسيقية مدوزنة تضاهي ما صنع عتاة الموسيقيين من لحن لامس الوجدان و استوى في الحد الفاصل (على الهبشة) بين المغادرة و الاستقرار و هو حد لو تعلمون  عظيم، يقدح زناد الإبداع و يولد الطرب الذي يبقى أثره ارتداداً إلى ذات لحيظات لا تغادر، تجتر المتعة كل حين، فنصبح كما قال ود حد الزين إسماعيل حسن (أنا في هواك أصبح وتر مشدود على كبد الزمان / ب يرن برآهو بلا تقرب ليهو اييد) و تقول بعض كلمات الأغنية و التي أهديها بامتياز مستحق لكل سادتي القُراء وإلى كل من بنفسه جمالاً يحس ويتذوَّق الجميل كل حين.. ينضح آسر الجمال على الجميع فيقدح جذوة حنين يتقد (برآهو بلا تقرب ليهوإيد)  فينفضح سر التعلق بالجمال يمشي كما جادت به قرية من كتبه، يمشي بين الناس بلا مواربة و لا حجاب.. كأغنية عيسى بروي:

تقول من نور هي مخلوقا

وربنا شال من أحلى صفات ردم فوقا

سمح لونا وسمح رسما وسمح ذوقا

كليمي كليمي ديمة حديثها بي روقا

ثم يقول:

وشيها قميره مافي سحابة بي فوقا

مضمر هافه ديمة تشوفها محزوقة

وعندما يشفه الوجد ويبلغ منتهاه تضج دواخله بهذا الآثر من السحر فينضحها شعراً يقول فيه:

حليلي أنا داير أموت يالله بي شوقها

متين ترجع لي تاني تداوي معشوقها

وينفرد بوصف كان جديداً وظل كذلك وما استطاع شاعر أن يضاهيه عندما قال :

(ربنا زاد جمالها زيادة مطبوقة من بنات الحور تقول  من الجنة مسروقه)

وفي درب سلكه الأولين والآخرين رحل عيسى وكعادة كل مبدع يتوفاه الله ويختاره إلى جواره يرحل كبقية خلق الله ولكن عندما يرحل المبدع إلى مثواه الأخير، فقط يرحل (ومعاه باقي كلام وباقي حنين).

(3)

أقول إن عيسى بروي ظاهرة تحتاج إلى تحليل وإلى وقفة وإلى كتابات لا تقف فالرزم السريع الذي فرضه على إيقاع الدليب وساده سنيناً عدداً و التطريب العالي واللحن الدافئ وبحة الصوت الحزين كل هذا الانفراد بأشياء لم تتوفر إلا له وما طرقها إلا إياه، فدونها راسخة في سفر التاريخ.. وردهاً من الزمان ليس قليل كان من يصوغ كلمات أغنياته الجميلة شقيقه الدكتور محمد بروي، ثم تعاون مع حسن الدابي ومحمد سعيد دفع الله والسر عثمان الطيب والحامدابي.. فلنقف جميعاً تعظيم سلام  عند (بيوت الطين القديمة)، ندخلها بسلامٍ آمنين مع بروي. ثم لا نبرح نتساءل معه: (مالك رحلت بعيد؟ لعلك ما شديد، مسخ علينا العيد.. أنا قلبي ماهو حديد / عصفت به ريح الريد.. لعلك ماك شديد؟)

(4)

ونقف معه قبل الإجابة على سؤال أول عند باب سؤال ثان ويا له من سؤال صدع به عيسى وصدح (أنا قت له وين ماشي؟ محمد وين ماشي؟ قال لي مكان نفسي / مكان فارقت انفاسي / مكان زولي ومكان ناسي /مكان تاج عزة فوق رأسي /مكان الريدة نبراسي/ مكان لا قلنا لا قالوا، لا هماز ولا واشي) يريد عيسى لمن يسأله أن يبعد عن كل الهُمزة والوشاة  اللُمزة وكأنه يستدعي قول سبقه إليه زياد الأعجم حين قال الهامز الواشي (تُــدلي بــودي إذا لاقيتنـي كذِبـا/ وإن أُغيــب فـأنت الهـامِز اللُمَـزة)، فلندع الهُمزة اللُمزَةٍ وشأنهم ونقف مع عيسى عند (اشتقت ليك) تلك الدرة التي صاغ كلماتها ودوزن لحنها عيسى نفسه وترنم بها قائلاً (اشتقت ليك / ودي الظروف القاسية ما كان بأيديا ولا يديك / إن شاء الله أنت تكون سعيد / أما أنا خليه حالي بجي أحكي ليك).

(5)

وتعالوا نذهب معه إلى قيف النيل ونشهد مأساة عروس النيل (أمونة بت الشيخ حمد) التي وفي يوم زفافها بمن لا تحب تسللت خلسة، قصدت النيل وهي تخطِر بين الحُلي والحِلَل وقفت أمامه، نزعت من يديها الحريرة وأزاحت الضريرة وفي لحظة موج النيل عِلا وفي جوفه غابت للأبد.. أمونة غابت للأبد.. دع عنك سيل جارف من الأغنيات منها (يا حمامة التعذيب كفي) (نصيبك أَبَى)، (الجدي الدابك رضيع) ثم يُفْرد ل (بيبشيشكن يا عيوني، يا دموع لا تفضحني).

(6)

أسفار وتسفار وانشغال وحزن وفرح ومآسي ووهن وجري وراء سراب وأسراب من الأماني الخُلب يرحل من يرحل من المبدعين ويتركوننا وحدنا وقوفاً علي (درب الرحيل)، نتأمل حكم الرحيل وأحواله، ننظر إبداع لا ينتهي، يتجدد نمير سلسبيله بلا انقطاع يطرب ويروي، ويغنى الكل على ليلاه فرحاً به أو حزن، لا فرق.. فمشاعر الإنسانية في حدها الأقصى منبعها دواخل لا تتلون، فلون الحزن وطعمه واحد أياً كانت جغرافيا المكان أو اختلاف الزمان في هذا الكون العريض، من هذه الثلة أتى عيسى بروي، من جغرافيا السودان من أقصاها إلى أقصاها، من أناس أعطوا وما استبقوا شيئاً جاء عيسى، ثلة من الجميلين  رحلوا في هدؤ ضاج أو ضجيج هادي وتركونا نحن عند مفترق الأفياء وطرق الشتات (نودع الراحلين) نلوّح في الهوى وفي الهواء (بآهاتنا) (بدمعاتنا) ( بأحزانا) وما قادرين.. رحمة الله وبركاته وسلام بغشي عيسى بروي في عليائه رافلاً في جنات النعيم. ولا أختم إلا بما تغنى به عيسى بروي (منو القال البلد خيرا اتمحى؟ البلد زينة وشبابها بيسمحا) .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى