محمد طلب يكتب: حالة حزن.. (شكسبير والراحلة بت البصير)

محمد طلب يكتب: حالة حزن.. (شكسبير والراحلة بت البصير)

وداعاً بت البصير

ووداعاً أخير

وموعدنا بإذن القدير

جنات وحرير

ففي حياتك المثير

وفي موتك الكثير

مما أثاره وليم شكسبير

قائلاً ما ترجموه للآتي:

مثلما تتلاحق الأمواج نحو الشاطئ المفروش بالحصى تسرع أيضاً دقائقنا إلى نهاياتها وكلنا في يوم ما قطعاً ستدركنا تلك النهايات… وقد كانت حياتك حيوات مختلفة رحمك الله.

عزيزي القارئ استميحك عذراً في مشاركة (حالة خاصة) من الحزن استعر فيها شيئاً من سونيتات الكاتب والشاعر الإنجليزي وليم شكسبير والتي قيلت في القرن السادس عشر، والعزاء أن البشرية جمعاء تمثل المشاعر لديها قاسماً مشتركاً بينها قديماً وحديثاً وإلى الأبد.

وداعاً اُمنا بت البصير فقد رحلت عنا سيدة في غاية الجمال والبهاء

رحلت سيدة في قمة العز والكبرياء

رحلت من سكنت وجداننا ابتسامة بيضاء

ورحل  الصفاء

وكل الحب والنقاء

حبها الذي احتوانا أهل وأصدقاء

أبكيها الآن وأنا (شيخاً) وقد احتوتني صبياً شقياً

كثير الدهاء

أبكيها لعلي لأرد الوفاء لأهل الوفاء أمنا (عاشة بت البصير)

ربع قرن من الاغتراب لم يقطعني عنها… كنت أزورها في كل إجازة عاماً بعد عام واستأنس بحديثها الجميل… وابتسامتها الوضئية… ثم عدت منذ سنوات لكني لم أجدها فقد كانت جسداً دون حياتها التي نعرفها لعل روحها وحياتها الأخيرة كانت في عوالم لا ندري كنهها وبيننا وبيننها حُجب…. رأيتها بحالتها الأخيرة مرة واحدة ولم استطع أن أعدها رغم زياراتي لدارها ولكني كنت أحس بأن روحها ما زالت تحلق في سموات تلك الدار الحبيبة لنفسي.

سمعت خبر وفاتها وأنا مريض وجسمي نصف مشلول وكان سبطها (عبيدو) يزورنا ليلة الوفاة وقلت له لن تعود لبيت عمك وألحيت عليه أنا يبقى معنا لا أدري لماذا فعلت ذلك وفي الصباح اطلعت على خبر الوفاة فتحرك قلبي من مكانه فهو أكثر العضلات حركة في جسمي العليل ليعلن عن حزن عميق ويخاطب عقلي… ماذا حدث؟؟

هل خرجت نفس المرحومة الحبيبة عبر أحد ثقوب الزمان ثم عادت فجأة لتعلن الرحيل وتنسكب الدموع والآهات الحبيسة….. بين حنايا أرواحنا…

يا ترى أين كانت تلك الروح اللطيفة؟؟ ومتى عادت؟؟ وكيف عادت؟؟؟ وهل عادت كي تعلن فقط خروجها الأخير وتعلن اللاعودة لذاك الجسد الذي أعياه السبات العميق وتذكرت بيتاً من أشعار شكسبير تقول ترجمته:

(فزعت لراحة الموت لما دهتني تباريح هذا البقاء)

ولقد حق لـ(عجبت) و(أميمة) والأحفاد والأسباط البكاء والدعاء وتعابير الحب واللا نحيب الآن… لقد كانت حياتها مبذولة للمحبة وروحها لم تعرف الضجر..

ووجدت نفسي أردد لشكسبير:

إنما الحــب كالروح في خــلدها ليس رهــــناً بقيد جســــمٍ هزيـــــــلْ

إن يكـــن ما أرى محــــضَ قـول وبرهـانُ صحتهِ من المســـــــتحيلْ

لم أكـن قطّ قد قلـت شــــعراً ولا كان بين الورى مستهام علـــــــــيلْ

رحم الله الحاجة عائشة فقد كانت معنىًّ من معاني الحب والجمال الواسعة والعميقة ويعلم ذلك كل من عرفها في العيلفون أو بوادي كردفان والأبيض.

كنت كلما أمر بحوش البصير خلال فترة مرض المرحومة الطويل أتذكر بعض الترجمات لسونيتات شكسبير التي تتحدث أغلبها عن (مرور الوقت)   وتُعنى بالحب والجمال… وها اأنا بعد الرحيل أردد قوله:

فمثلما يذوي من اكتملت حياته بانقضاء السنوات،

لا بد لخَلَفِهِ الرقيق أن يحمل ذكراه

وعن أي خلف نتحدث إنهم نجوم مجتمعهم في جميع مجالاته من ذوي الخلق والدين… سيف الدين عبد الرحمن السر كبيرهم وخادمهم وبدر الدين طبيبهم وأميرهم وصلاح الدين وجمال الدين وكمال الدين وأي جمال وكمال وصلاح وآخرهم المسمى على النبي محمد أكرم الأكرمين… أحسن الله العزاء وجبر الكسر إخواني، ووفقكم الله في السير على طريق الَمحبة والجمال والذكرى العطرة التي خلفتها والدتكم اُمنا بت البصير..

بعدما يأتي الوليد إلى نور الحياة،

يحبو حتى ينضج، فإذا ما تَوَّجَتْهُ الأيامُ،

أنشبت مخالبُ الخسوف الخرابَ فيما له من البهاء،

والزمن الذي وَهَبَ، يدمر الآن ما له من العطاء،

إنه شكسبير أيضاً…. فنسأل الله أن يصلح حالنا ويجمعنا بها في جنات الفردوس…

الحبيبة اُمنا بت البصير رحمك الله رحمة واسعة فقد كان لسان حالنا في سنواتك الأخيرة يقول:

(نحن نبغي المزيد من أجمل الكائنات كيلا تموت وردة الجمال أبداً)

والأم أجمل كائنات هذا الكون على الإطلاق…

أحبائي

أعزيكم ونفسي في هذا الفقد الجلل وأنا على السرير الأبيض أكرر ما تُرجم عن  شكسبير:

(يستلب الزمان زهرة الشباب من نطاقها… ويحفر خطوط التجاعيد المتوازية في جمال الجبين… يقتات بالكائنات النادرة التي بلغت في الطبيعة حد الكمال… ولا شئ ينهض لمواجهة منجله الجبار)

رحلت الحاجة عائشة وليس أمامنا سوى الصبر والامتثال لأمر الله واختياره وما علينا إلا التأمل في البشارة بالآية الكريمة وترديدها واستيعابها: (وبشِّرِ الصَّابِرِينَ ۝ الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ ۝ أُوْلَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَاتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَرَحْمَةٌ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ).

سلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى