أكتوبر.. هل طواها النسيان؟

الخرطوم- الطيب محمد خير 21 أكتوبر 2022 م
يصادف اليوم الذكري الـ (58) لثورة أكتوبر، التي تشكِّل حدثاً مفصلياً في تاريخ السودان السياسي المعاصر ظلت بصماتها حتى في الشعر والفن السوداني خالدة غير أن الكثير من الجيل الحالي الذي صنع ثورة ديسمبر التي أطاحت بدكتاتورية الإنقاذ التي جثمت على صدر السودان ثلاثين عاماً، ترفع شعارات الإسلام السياسي يجهلون أسباب اختيار يوم 21 أكتوبر الأول، لخروج التظاهرات بشكل عفوي بأنه التي يصادف ذكرى أول ثورة شعبية تشهدها المنطقة العربية والأفريقية فجَّرها الشعب السوداني وأطاح بحكومة الفريق إبراهيم عبود، القائد العام للجيش الذي تسلَّم الحكم بانقلاب غير دموي في 17 نوفمبر عام1958 من رئيس الوزراء عبد الله خليل الذي انقلب على نفسه وسلَّم الحكم طواعية للعسكريين الذين حلوا الأحزاب وعلَّقوا الدستور وحوَّلوا الحكم إلى ديكتاتوري.
رغم الجدلية الدائرة حول من صنع أو أشعل ثورة أكتوبر إلا أن المعاصرين الذين شاركوا في هذه الثورة يكاد يجمعون على أن السبب الرئيس في الإطاحة بنظام الفريق عبود بعد ست سنوات، من حكم البلاد، هو تقاعسه عن حل مشكلة الجنوب الذي ثار ضد سياسات الفريق عبود والعديد من الإجراءات التي واجهت مقاومة في جنوب السودان خاصة قرار طرد المبشِّرين المسيحيين الأجانب من الجنوب الذي أدى لإضراب واسع النطاق في المدارس الجنوبية ومظاهرات مناهضة للحكومة أعقبها هروب عام للطلاب وغيرهم عبر الحدود فاندلع التمرد في شرق الولاية الاستوائية وفي منطقة أعالي النيل بقيادة “أنيا نيا” للضغط على الحكومة للموافق على التوصل لحل مقبول للجنوبيين، غير أن الحكومة زادت من عمليات القمع.
وفي نهاية المطاف رضخت الحكومة لمبدأ مناقشة قضية الجنوب وشكَّلت لجنة عرفت اصطلاحاً بلجنة الخمسة والعشرين لمناقشة القضية ودُعي طلبة جامعة الخرطوم للمشاركة في النقاش، وشارك الطلبة في النقاش، لكنهم احتجوا على سياسات الحكومة الاقتصادية وارتفاع تكاليف المعيشة في البلاد والإخفاق في حل مشكلة الجنوب خرجوا في مظاهرات صاخبة سرعان ما انتشرت في أنحاء البلاد الأخرى، وتبعها أضراب الموظفين وعمال المواصلات فألغت الحكومة النقاش حول قضية الجنوب ولجأت لقمع الاحتجاجات.
هناك إجماع على أن البداية الحقيقية لثورة أكتوبر عندما قامت قوات الأمن باقتحام حرم جامعة الخرطوم لتفريق ندوة بعنوان (المعالجة الدستورية لمشكلة جنوب السودان) وهاجم المشاركون فيها النظام العسكري واتهموه بخلق الفتنة بسياساته الحمقاء في جنوب السودان، وفي اليوم التالي اجتمع الطلاب وقرَّروا القيام بمظاهرة داخل حرم الجامعة رفضاً لتعدي قوات الأمن على الجامعة مع تقديم مذكرة لمدير الجامعة ولوزير الداخلية يطالبون فيها بحماية الجامعة من الاعتداءات الأمنية، ولكن الحكومة قامت باعتقال لجنة الطلاب التي تقدَّمت بالمذكرة، وكانوا عشرة طلاب، فاشتعلت المظاهرات في داخليات الطلاب، وأثناء محاولة فض المظاهرات الطلاب قتل الطالب أحمد القرشي، برصاصة طائشة وكان مقتل القرشي الشرارة الثورة التي أشعلت الثورة في كل أنحاء السودان ورفع المتظاهرون خلال تشييع القرشي الشعار الشهير ( إلى القصر حتى النصر) واستمرت التظاهرات لأربعة أيام ظلت فيها الحكومة تتخبط وتكابر، فمرة تدعو للتهدئة وأخرى توجه قواتها الأمنية لاستخدام القوة في فض المظاهرات حتى خرج رئيسها الفريق إبراهيم عبود، وألقى خطاباً ألمح فيه إلى بقائه في السلطة حتى تشكيل حكومة لكن الجماهير رفضت وواصلت ثورتها، وبعد و احتشدت عند القصر الجمهوري فأطلقت الشرطة النار على المتظاهرين وسقط عدد من القتلى فيما عُرف بحادثة القصر فأصدرت مجموعة من ضباط القوات المسلحة سمَّت نفسها بالضباط الأحرار بياناً أعلنت فيه انضمامها للشعب من أجل استعادة الديموقراطية والدستور، وعندها أيقن رئيس المجلس العسكري الفريق إبراهيم عبود نهاية حكمه وأعلن تنحيه عن السلطة وشكلت حكومة انتقالية سميت بحكومة جبهة الهيئات برئاسة مساعد وزير التربية والتعليم سر الختم الخليفة الذي تولى فيها رئاسة الوزراء لكنها واجهت رفض شديد من المؤسسة العسكرية السودانية التي اعتبرتها إهانة لها أن تقبل بأن يشاركها المدنيون السلطة ما جعل الحكومة الانتقالية غير آمنة من الثورة المضادة من قبل بعض قيادات المؤسسة العسكرية التي دخلت في اتصالات سرية للترتيب للانقلاب على حكومة سر الختم الخليفة الانتقالية وإعادة الحكومة العسكرية برئاسة الاميرلاي بشير حسن بشير، لكن شاءت الأقدار أن ينكشف المخطط من قبل عثمان نصر عثمان، دون أن يقصد في حفل استقبال للضباط العائدين من مناطق العمليات في جنوب السودان عندما قال: (إن الجيش قادم ليسترد دوره ويدافع عن نفسه قريباً ولن يستطيع إذلاله بضعة أفندية وصعاليك)، ليقوم الضباط بعدها بتسريب ما قاله قائدهم ووصل لزعماء الأحزاب السياسية، الذين اجتمعوا بشكل سري واتفقوا على الدعوة لحماية الثورة من تآمر العسكر، وتم تفويض المحامي فاروق أبو عيسى، للقيام بالمهمة، وفي نشرة العاشرة مساءً في إذاعة أم درمان فوجئت الجماهير بفاروق أبو عيسى يدعوها للنزول والاحتشاد في الشارع لإنقاذ ثورتهم من تآمر قيادات الجيش الذين رفضوا تنحي الفريق عبود وعودة الحكم المدني عندها استجابت الجماهير ونزلت بأعداد كبيرة، وترددت وسط الحشود المتظاهرة معلومات بأن الانقلاب يخطط له بتنسيق مصري أمريكي مع الضباط فقامت الجماهير باقتحام وحرق مقر السفارتين المصرية والأمريكية في الخرطوم قاموا بالاستيلاء على مستندات من السفارة المصرية تؤكد أن جمال عبد الناصر وحكومته كانوا على اتصال بالضباط الذين يريدون الانقلاب على الثورة وقاموا بتشجيعهم على هذا الانقلاب، ورغم محاولة الحكومة المصرية المتكررة إنكار أي صلة لها بمحاولة الانقلاب العسكري، رد الشعب السوداني لحكومة عبد الناصر التحية بأحسن منها عندما استقبلته بعد حرب النكسة مهزوماً كأنه هو المنتصر وهو يهبط الخرطوم لحضور مؤتمر قمة اللاءات الثلاث الذي انعقد بالخرطوم.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى