عبد الله مسار يكتب: الأب مدرسةٌ
5 اكتوبر 2022م
قال أحد الأبناء عن أبيه، كان أبي اذا دخل غرفتي ووجد المصباح مضيئاً وأنا خارجها, قال لي لماذا لا تطفئ المصباح, لِمَ كل هذا الهدر للكهرباء.
واذا دخل المنزل ووجد الصنبور يقطر ماءً, قال لِمَ لا تحكمون قفل الصنبور ولماذا هدر المياه، وكان كثيراً ما ينتقدني ويتهمني بالسلبية ويعاتبني على الصغيرة والكبيرة حتى هو على فراش المرض، وحتى في اليوم الذي انتظرته حيث انني سأجري مقابلة للحصول على وظيفة مرموقة في إحدى الشركات، حيث إنه لو تم قبولي سأترك هذا البيت وأرتاح من أبي وتوبيخه الدائم لي, استيقظت في الصباح الباكر وهممت بالخروج، فإذا بيد تربت على كتفي عند الباب, التفت فوجدت أبي مبتسماً رغم ذبول عينيه وظهور أعراض المرض على وجهه, ناولني بعض النقود قال لي أريدك إيجابياً وواثقاً من نفسك ولا تهتز أمام أي سؤال، تقبّلت النصيحة وخرجت مُسرعاً واستأجرت سيارة اجرة وتوجّهت إلى الشركة، وما أن وصلت ودخلت من بوابة الشركة حتى تعجّبت كل العجب, فلم يكن هناك حراسٌ عند الباب ولا موظف استقبال سوى لوحات إرشادية تقود إلى مكان المقابلة.
وبمجرد أن دخلت من الباب, لاحظت ان مقبض الباب قد خرج من مكانه واصبح عرضة للكسر إن اصطدم به أحدٌ, فتذكرت نصيحة والدي عند خروجي من المنزل بأن أكون ايجابياً. فقمت على الفور برد مقبض الباب إلى مكانه وأحكمته جيداً.
ثم تتبعت اللوحات الإرشادية ومررت بحديقة الشركة فوجدت الممرات غارقة بالمياه التي كانت تطفو من أحد الأحواض الذي امتلأ بالماء إلى آخره، وقد بدا أن البستاني قد انشغل عنه فتذكّرت تعنيف أبي على هدر المياه, فقمت بسحب خرطوم المياه من الحوض الممتلئ ووضعته في حوض آخر مع تقليل ضخ الصنبور حتى لا يمتلئ بسرعة الى حين عودة البستاني.
ثم دخلت مبنى الشركة متتبعاً اللوحات, ومن خلال صعودي على الدرج لاحظت الكم الهائل من مصابيح الإنارة المضاءة ونحن على وضح النهار, فقمت لا إرادياً بإطفائها خوفاً من صراخ أبي الذي كان يصدح في أذني أينما ذهبت, إلى أن وصلت للدور العلوي, ففُوجئت بالعدد الكبير من المتقدمين لهذه الوظيفة.
قُمت بتسجيل اسمي في قائمة المتقدمين وجلست انتظر دوري وأنا أتمعّن في وجوه الحاضرين وملابسهم لدرجة جعلتني أشعر بالدونية من ملابسي وهيأتي أمام ما رأيته, والبعض يتباهى بشهاداته الحاصل عليها من الجامعات الأمريكية, ثم لاحظت ان كل من يدخل المقابلة لا يلبث إلا أن يخرج في أقل من دقيقة, فقلت في نفسي إن كان هؤلاء بأناقتهم وشهاداتهم قد رفضوا فهل سأُقبل أنا؟!
هممت بالانسحاب والخروج من المنافسة الخاسرة بكرامتي قبل أن يقال لي نعتذر لك.
وبالفعل انتفضت من مكاني وهممت بالخروج فإذا بالموظف ينادي على اسمي للدخول, فقلت لا مناص سأدخل وأمري لله. دخلت غرفة المقابلة وجلست على الكرسي في مقابل ثلاثة أشخاص، نظروا اليّ وابتسموا ابتسامة عريضة, ثم قال أحدهم متى تحب أن تستلم الوظيفة؟؟!!
فذُهلت لوهلة وظننت أنهم يسخرون مني أو انه أحد أسئلة المقابلة ووراء هذا السؤال ما وراءه.
فتذكرت نصيحة والدي عند خروجي من المنزل بألا أهتز, وأن أكون واثقاً من نفسي, فأجبتهم بكل ثقةٍ بعد أن اجتاز الاختبار بنجاح إن شاء الله، فقال آخر قد نجحت في الامتحان وانتهى الأمر، فقلت ولكن أحداً منكم لم يسألني سؤالاً واحداً؟
فقال الثالث نحن ندرك جيداً انه من خلال طرح الأسئلة فقط لن نستطيع تقييم مهارات اي من المتقدمين، ولذا قررنا ان يكون تقييمنا للشخص عملياً، فصممنا مجموعة اختبارات عملية تكشف سلوك المتقدم ومدى الإيجابية التي يتمتع بها, ومدى حرصه على مقدرات الشركة, فكنت أنت الشخص الوحيد الذي سعى لإصلاح كل عيب تعمّدنا وضعه في طريق كل متقدم وقد تم توثيق ذلك من خلال كاميرات المراقبة.
وعندها تذكرت والدي… ذلك الباب الذي ظاهره القسوة، ولكن باطنه الرحمة المَودّة والحُب والحنان والطمأنينة, وهنا شعرت برغبة جامحة الى العودة للبيت والانكفاء لتقبيل يدي أبي وقدميه, ولكن عند الباب رأيت أقاربي الجيران وعرفت أن والدي قد رحل إلى الدار الآخرة، وعندها تأكدت انه كان يعطينا بلا مقابل، وعن حنان بلا حدود, عن الإجابة بلا سؤال, وعن النصيحة بلا استشارة, وعرفت أن الوالد كان هو البار بنا ولم ينل منا البر الذي كان يجب أن يكون, وعرفت بغياب أبي قد غاب العقل الرشيد والركن الشديد والسند المتين والناصح الأمين!!
عليه، أعتقد أن كل الأبناء يجب أن يتعلّموا من آبائهم هذه القيم, وأن يدركوا أهمية الأب, وأن ضغطهم عليهم رحمة بهم وعطف عليهم.
إن الآباء هم المدرسة الكبرى.