حميد.. شاعر عَصِيٌّ على فكرة الغياب

خرج من الجروف والطين وسعف النخيل

كتب: سراج الدين مصطفى

مسيرة شاعر

حينما نكتب عن (حميد) ذلك يعني استدعاء جزء حميم من الذاكرة الجمالية لهذا الشعب، وذلك  -أيضاً- يعني بالضرورة الوقوف عند مسيرة شاعر  خرج من الجروف والطين وسعف النخيل والنيل، كما يقول محجوب شريف، عبر حميد فينا كما الطيف، نحت تذكارته علي صفحة هذا الوطن، وقع إنابة عن كل الغبش في وثيقة عهد لا تعرف الخيانة للمواقف والمبادئ والقيم التي طالما سعي لها وهي حي بيننا، لذا (حميد) شاعر عصي علىي فكرة الغياب وإن غاب جسداً ولكنه حضور دائم الاشتعال في مقدمة الذاكرة لا يطاله النسيان ولا تدنسه أغبرة الزمن.

الانحياز للإنسان

اختار محمد الحسن سالم حميد الانحياز للإنسان في كل مكان بلا تأطير لحدود الجغرافيا، هكذا أراد لشعره أن ينداح بعيداً عن الجنس والعرق واللون، تلك الميزات منحته العديد من الألقاب التي وصفها بها كشاعر الفقراء والمساكين، شاعر الوطن والنضال وغيرها من الألقاب الكثيرة التي وُصف بها في حياته غير الطويلة التي اختصرتها شوارع الأسفلت ولكنها لم تختصر عنوانه العريض كشاعر حدَّد معالم هويته بقوله:

“ومن حقي أغني العالم .. إبداع وعلم حرية

إنساني شعوب نتسالم.. نتسالم بي حنية

على نخب الود نتنادم.. لا جنس ولا لونية

لا عِرق لا آه نتقادم.. سكتنا بياض النية

مش كلنا جينا من آدم.. مش آدم أبو البشرية

السجن إذاً يترايم.. نبنيها قلاع ثورية

عقبال الخير يترادم.. والدنيا تمش دغرية

مد كفك يا بني آدم.. حرية سلام حرية”

في دهاليز الغربة

حميد ليس مثله ومثل (أي زول) كما يقول هو بتواضع الإنسان الكبير، وهو الذي عاش في دهاليز الغربة التي أخذته ردحاً من الزمان هو ورفيق دربه مصطفى سيد أحمد، ويبقى الاختلاف الوحيد أن مصطفى مات بعيداً هناك في دوحة قطر،  بينما رحل حميد على شوارع الأسفلت،  وربما كان محظوظاً أكثر من مصطفى سيد أحمد حينما أتيح لها أن يتلفح (بكفن) من قطن هذا البلد، وذلك مالم يتوافر لمصطفي حينما نعاه حميد قائلاً:

يوماتي تهاتي وطن وطن ..

مع أنو أداك ميتة الغربة

واستخسر فيك الكفن..

تلك هي الغربة الطويلة التي خرج فيها (حميد) مبتعداً عن تراب الوطن بعد أن عاش ردحاً من الزمان وهو يعاني من المضايقة والكبت، خرج حميد عن السودان لأجل فكرة محدَّدة، حكى عنها ذات مرة وقال: (خرجت من هنا عام 96 وكان من المفترض أن يكون الخروج قبل ذلك بعدة سنوات أيام حياة المرحوم مصطفى سيد أحمد، حيث كنت أريد أن أكون قريباً منه وليس من أجل أن نغني مع بعض فقط، بل لأعيش معه لحظات المرض ولأستطيع ومن خلال مصطفى أن أغني الغناء الذي يمكن أن يصل للناس وأقول إن مسألة الغناء هذه ليست مسألة أساسية فالشئ الأساسي هو العلاقة التي تربطني بمصطفى باعتبار أني أريد أن اتفقده وأمارضه وأكون معه وبعد ذلك تأتي هذه الأشياء).

تشابه رحيل العباقرة

التأمل في حياة (حميد) لا ينفصل عن فكرة تشابه رحيل العباقرة كما يقول الأستاذ أحمد إبراهيم (عندما غيَّب الردى الشاعر الفلسطيني محمود درويش كتب الأديب الناقد محمد خير، قائلاً: لم تكن قصائده الأخيرة “تُشبه قصائد النهايات، بل تميَّزت بخصوبة وطزاجة، لعلّها السبب في ذلك الشعور المتناقض الذي سكن قلب كلِّ مَنْ فوجئ بالرحيل، إذ امتزج الحزن بالطمأنينة في تركيبة نادرة، الطمأنينة لأنّ ذلك الشاعر الكبير منحنا الكثير من الشعر، حتى إننا لن نستطيع أن نفتقده، والحزن لأن ذلك العنفوان المتبدئ حتى السطر الأخير، كان ينبئ بالمزيد من القصائد والصور التي وقفت تنتظر دورها، فلم تسنح لها الفرص”.

وتجارب حافلة بالدروس والعِبَر

هكذا كان الرحيل المُرّ للشاعر محمد الحسن سالم (حميد) أشبه برحيل درويش، وإن اختلفت الأعمار، والأوطان، والأسباب، لأن بين الاثنين قواسم مشتركة، وتجارب حافلة بالدروس والعِبَر التي لا يستطيع الآخرون استنساخها حتى لو ظن بعضهم أنهم قادرون على ذلك. كان حميد مثل درويش، أنجبه رحم المعاناة وحيداً، وجعله الإيثار بالذات في سبيل النطق بقضايا الكادحين فريد عصره، رحل ولم يترك فينا وريثاً، بالرغم من أن إسهامات بعض المبدعين من أمثاله تتقاطع أسئلتها عند مشكلة الإنسانية، وجدلية الصراع بين الحُكام والمحكومين، وقضية الأشباه والنظائر في أصالة أهل الريف وحداثة أهل الحضر، ولكنها بلغة غير اللغة التي شكَّلت وجدان قصائد حميد، وبغير الأسلوب الفلكلوري الذي ميَّزه عن الآخرين، والصور المتقابلة التي انتظمت ملاحمه الشعرية الطاعنة في شرعية أهل السُّلطة والسُّلطان، ومناجاته المثقلة بضنك المهمشين، ومرافعاته باسم الكادحين والغلابة التي رسمها في لوحات شاعرية خالدة.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى