“القرية”.. حكايات أطفال لفظتهم الحياة!

دار تؤوي فاقدي السند بعد خروجهم من "المايقوما"

أم بديلة: عمر الخامسة الأنسب لإخبارهم عن حقيقتهم وننتهج طُرقاً علمية في ذلك

أب القرية: الوصمة الاجتماعية وقلة الدافعية عند الخروج للمجتمع من أكبر التحديات التي تواجههم

مجلس الإفتاء: هم الفئة الأكثر يُتْماً والأجدر بالرعاية

اختصاصي نفسى: الاكتئاب والقلق والانكفاء على الذات من أكبر المشاكل النفسية والاجتماعية

هناك من يتجاوز الوصمة بعد الوصول للمرحلة الجامعية

السؤال عن الوالدين الحقيقيين من أكثر الأسئلة التي تدور بأذهانهم

تحقيق: منى النور

 

تقوم فكرة (القرية)، هذا البناء الأجتماعي على نظرية الأم البديلة، حيث يجمع الأطفال الأيتام أو فاقدو السند والذين أكملوا فترة من أعمارهم  (ما بين الميلاد إلى ثلاث سنوات) داخل دار المايقوما ثم يتم نقلهم للقرية،  فهي  عبارة عن منازل مستقلة تضم أبناءً وبنات يُطلَق عليهم الإخوة، حيث تقوم على رعايتهم  أم بديلة، وهي تشكل الأساس لبناء هذه المنظومة، تشاركها تلك المهام في إدارة شؤون الأطفال، وتحل محلها في العطلات الخالة كما يمثل مدير القرية أباً للجميع.

 (الصيحة)، ولجت عوالمهم، وقامت بزيارة ميدانية لهذه القرية التي أصبحت تشكل وطناً لهذه الشريحة الهامة من المجتمع، وأول ما شد انتباهي، وأنا أهم بالدخول لقرية الأطفال فاقدي الرعاية الأبوية بمنطقة الأزهري جنوب جامعة أفريقيا العالمية، السور العالي الذي يحيط بالقرية كالخاتم بالأصبع، تلك الحدائق المنسقة والأزهار التي وزعت بشكل أنيق على طول المدخل، والمنازل التي صُمّمت بطراز حديث، والتى تعتبر مأوى لهذه الشريحة.   فقد أنشئت القرية في العام 1978م بواسطة منظمة قرى الأطفال الدولية، وهي منظمة دولية تهتم برعاية وتربية وتنشئة  الأطفال فاقدي العائل، ومؤسس هذا المشروع المنتشر اليوم في (135) دولة، الألماني هيرمان جومينر عام 1949.

أم بديلة مثالية

لاكتشاف عوالم هولاء الأطفال، ومعايشة تفاصيل حياتهم اليومية، طلبت من الإدارة الجلوس مع بعضهم حتى أتعرف على مجتمعهم، وكيف يعيشون، وما هي الإشكالات التي تواجههم والفئات الأخرى التي تشكل القرية من أطفال وشباب وأمهات، ولكن لم يحالفني التوفيق فيما تمنيته، فقد قوبل طلبي بالرفض التام من أب القرية لأسباب مقنعة، وذلك لحساسية وضعية هذه المجموعة الخاصة، حيث لم يتسن لي غير الجلوس مع الأمهات اللائي تم اختيارهن على أسس.

وأول ما لفت انتباهي النظرة التي كانت تلاحقني من عيون الأطفال وأنا أتجول داخل القرية، حيث لمحت في أعينهم سؤالاً وهم يصافحونني مرحبين عن سر قدومي وكانت أول وجهتي منزل (ماما الدرة) إسماعيل ذات الخمسين ربيعاً التي وجدتها مع طفلها الذي يبلغ من العمر أربعة أعوام، يستدر عطفها بعد رفضها له الخروج للعب مع رفاقه بالخارج، فقد ابتدرت حديثها: اخترت أن أكون مربية بهذه القرية، لأنني أعشق الأطفال، مجيبة على  سؤالي حول دواعي تسخير حياتها لفائدة هؤلاء الأطفال الذين صاروا مثل أبنائها، لتقول بأن الصدفة لعبت دوراً كبيراً في دخولها عالم هولاء الأطفال، حيث كانت ترسم لنفسها واقعاً يشبه عالمهم، ولكن عدم زواجها حال دون ذلك، وقالت إنهم يمارسون حياتهم بشكل طبيعي، وتعيش وسطهم كأم مع أولادها تسهر على تربيتهم وخدمتهم وراحتهم دون كلل أو ملل، مشيرة إلى أن التجربة من التجارب الصعبة التى يمكن أن يمر بها الإنسان في حياته، لافتة إلى أنهم يخطرون الأطفال بحقيقة أنسابهم مبكراً. وتضيف معلقة على هذه النقطة نخبرهم بأننا لسنا أمهاتهم الحقيقيات اللاتي ولدنهم في أعمار صغيرة لتجنيبهم الصدمة مستقبلاً، لذلك نحرص على تمليكهم الحقيقة منذ الصغر، كما نعمل على الإجابة على كل تساؤلاتهم الحائرة حول أسرهم المجهولة.

غرابة الفكرة

فيما تروي ماما إشراقة مزمل، وهى أم لستة أطفال تجربتها واعتراض أسرتها على الفكرة لغرابتها، وسردت لنا أقسى تجارب الأمومة التي عاشت تفاصيلها مع طفلة معاقة لديها جهاز في الرأس كانت تسهر الليالى بجوارها تنفيذاً لقرار الأطباء دون كلل وبفضل الله ورعايتها استطاعت تجاوز تلك الفترة وكتب لها عمر جديد واليوم وصل عمرها  الخمسة عشر عاماً.

 وعن طبيعة المشاكل التي تواجه الأطفال قالت: أكثر ما تلاحظه في أعينهم  سؤالهم عن والديهم الحقيقيين بعد التواصل اجتماعياً مع رفاقهم من خارج القرية، إضافة إلى مشكلة تدني المستوى الدراسي عند البعض خاصة بعد معرفة الحقيقة والغموض والعناد والقلق، مشيرة إلى هناك من يتجاوز الوصمة الاجتماعية عند المرحلة الجامعية من خلال تواصلهم مع زملائهم واصطحابهم لزيارة المكان الذي ينتمون إليه.

 وتقول عايدة مجذوب خريجة جامعية، إن تجربة الأمومة من التجارب التي تمتزج بالمتعة والدهشة، لأم عازبة تعيش تجربة الأمومة لأول مرة مع أطفال مختلفين في الطباع وفي الأعمار، ولكنها عادت وقالت: مع مرور الأيام  تحولت لتجربة ممتعة ولم تواجهني مصاعب كثيرة.

خصوصية عالية

 العوامل النفسية والاجتماعية من أهم مرتكزات تشكيل الأطفال بالقرية، ولهذا (الصيحة) جلست إلى الاختصاصي النفسي عواطف محمد الطاهر، والتي تعمل في القرية قرابة الـ(18) عاماً مبتدرة حديثها بالقول إن الأطفال بالقرية لهم خصوصية أرجعتها لتكوينهم ونشأتهم. وحول الكيفية التي يتم بها الأمر تقول عواطف الأم،  ننتهج طرقاً علمية لإخبارهم بالحقيقة، ولذلك الأم هي المعنية بهذه المهمة كونها الأقرب عاطفياً ونفسياً لوجدان الطفل، وهي عبارة عن معلومات أولية (من أنت) ومن أين أتيت، مشيرة إلى أن عمر الخمس سنوات هو أنسب  عمر أو مرحلة  لإخباره بالحقيقة، لأنها سن تكوين الشخصية، لذلك يملك المعلومة الأولية مبكراً  ليتمكن من التأقلم معها والعكس  كلما تقدم في العمر أصبح حساساً لوضعه، ويمكن أن يتأثر بذلك خاصة عند مرحلة المراهقة التي تعد فترة خصبة لظهور المشاكل النفسية. لافتة لتنظيم جلسات نفسية للإجابة على التساؤلات التي تدور بخاطر الطفل بشفافية مؤكدة على أن التعامل بمصداقية من أهم الأسس لتفادي المشاكل مستقبلاً.

قسوة المجتمع

وبحسب حديث عواطف، من أبرز المشاكل النفسية والاجتماعية التى يعاني منها الأطفال وتنمو معهم إذا لم تتم معالجتها مبكراًالأكتئاب والقلق والانكفاء على الذات، عزتها للوضع الاجتماعي وكيفية التأقلم اجتماعياً نتيجة لقسوة المجتمع عليهم بداية من المدارس التي  يمكن أن يعود  منها الطفل منطوياً أو باكياً لنعلم بعدها أن طفلاً آخر نعته (بابن القرية)، مؤكدة أنها واحدة من الأسباب التي قادتهم لإخبارهم بالحقيقة مبكراً، مضيفة أن  الطفل عندما يحضر من دار المايقوما يكون فاقداً الحضن الأول والاهتمام رغم المجهود المبذول في الدار، لافتة إلى أنه كلما أحضر الطفل للقرية صغيراً تسنح الفرصة لتلقي الرعاية الأولية.

 وزادت بالقول: يمكن أن يأتي في عمر الخمس أو الثلاث سنوات،  ولكنه قد يأتي بمشاكل معقدة يصعب تداركها.

 كما نحرص على عمل (عقيقة) لكل طفل يدخل القرية وهي إعلان بأنه مرحب به وسط أسرته الجديدة بتزيين المنزل وتهيئة أشقائه، وهي من الوسائل النفسية التي نعمل على اتباعها.

وتري عواطف أن العدوانية والعناد من المشاكل التي تعود لطبيعة المرحلة.

وتقول مجيبة على سؤالي حول طبيعة مشاكلهم عند انتقالهم لبيوت الشباب: مشاكلهم لا تختلف عن شباب اليوم لأنهم يكتسبون من الخارج وبعضها لم تتم معالجته منذ الطفولة، لذلك يتم إعداد ملف للأوضاع النفسية والاجتماعية لمشرف الشباب للاستعانة به عند الضرورة مؤكدة عدم وجود محاولة للانتحار، مضيفة أن السور يعزلهم نفسياً واجتماعياً، ولكنهم يخرجون للمجتمع وهناك تفاعل من الشباب بقضاياهم ويتفاعلون معهم، مشيرة إلى أن هناك من استطاع تجاوز الوصمة، وهناك من لم يستطع.

 وناشدت المجتمع في ختام حديثها بضرورة التعامل معهم  بشيء من العدل، لأنهم فئة لا ذنب لها، وأنصح الشباب بالثقة بالنفس، لأن المجتمع لا يمكن تغييره بين ليلة وضحاها.

قيمة رمزية

معاوية عبد الكريم عبد الكريم، مدير قرية الأطفال بالسودان، وهو يقيم بأسرته داخل القرية، ابتدر حديثه لـ(الصيحة) بالقول: نعمل في مجال رعاية الأطفال قرابة الـ40عاماً، وأول قبول كان في العام 1975، مشيراً إلى أن البيت في القرية له قيمة رمزية، فهو المأوى والملاذ الذي يضمن حضناً دافئاً للأطفال من خلال رعاية الأم، مبيناً أن بيوت القرية تضم أسرًا مستقلة بها مجموعة من الأطفال الأيتام يحضرون من دور الإيواء، ويصبحون أبناء وبنات إخوة، وتمثل الأم العمود الفقري باعتبارها القائد والمحفز الأول الذي يقود تنمية الطفل في مناحي الحياة.

 ويضيف معاوية: افتتحت القرية بداية بأربعة منازل ليصل العدد  لـ(15) منزلاً حيث  يتراوح عدد الأطفال في الأسرة الواحدة ما بين (7- 10) أطفال، وقال إنهم يهدفون لنمو كل طفل آمناً بمحبة واحترام، بجانب مساعدتهم في بناء مستقبلهم ليصبحوا أعضاء فاعلين، مضيفاً أن رسالتهم لا تتوقف عند الأطفال فاقدي الرعاية الأسرية وإنما تمتد للأطفال في ظل الرعاية الأبوية، ويعيشون أوضاعاً خطرة، وأن برنامج الرعاية الأسرية البديلة يرتكز على تقديم الخدمات الأساسية على مستوى الصحة والتعليم ورعاية المواهب، بجانب المساهمة في استخراج الأوراق الثبوتية، لافتاً إلى أن الأطفال بالقرية يعيشون حياة طبيعية، يتعلمون في المدارس ويلتحقون بالجامعات ولكن عند بلوغ الذكور سن البلوغ يفصلون عن إخواتهم البنات وأمهاتهم في سكن خارج القرية يطلق عليه بيوت الشباب، وتظل البنت بالقرية، فهناك من تفضل العمل بالقرية كالأم البديلة.

اختيار الأم

بحسب حديث معاوية، هناك عدد من المعايير التي يجب توفرها في الأم البديلة أبرزها أن تكون المتقدمة للمهمة  أرملة أو غير متزوجة أو مطلقة، يتراوح عمرها ما بين (40-50) عاماً، بجانب إقرار مكتوب بموافقة ولي أمرها كما تخضع لفحوصات  طبية لضمان سلامتها وسلامة الأطفال، مشيراً إلى أن هناك خالة لمساعدة الام عمرها ما بين (17- 35) موضحاً  أن عدد الأطفال بالقرية يبلغ (101) طفل (68) ولداً و(33) فتاة و (60) شاباً موزعين في الأحياء الشعبية، وقال إن ميزانية هولاء الأطفال هي إعانة دولية كاملة مقدمة من صندوق هيرمان وهي منظمة دولية تهتم برعاية وتربية وتنشئة الأطفال فاقدي السند مقرها النمسا، تشمل كل احتياجات الطفل . وحول الكيفية التى يتم بها إحضار الأطفال للقرية، قال معاوية: يتم إحضارهم من دور الرعاية بالمايقوما أو من مدني بمخاطبة وزارة التنمية الاجتماعية بعدد الأطفال الذين نرغب في إعالتهم، وتكوين لجنة تضم مدير القرية وباحثاً نفسياً واجتماعياً والأمهات وطبيباً، مبينًا أن القرية لم تشهد دخول أطفال جدد منذ العام 2012، وقال إن سن القبول تبدأ من عمر الثلاث سنوات فما فوق، مؤكداً أن الأعمار الصغيرة تسهم في التربية بشكل سليم، وتكون متماسكة، لافتاً إلى أن معظمهم يحضرون من دار المايقوما، وكل طفل يدخل للقرية يجب استخراج الأوراق الثبوتية له، وهل تتوفر أي معلومات حول والدته الحقيقية والمكان الذي عُثر عليه  فيه، واستخراج شهادة كفالة تنص على تحويل الطفل للقرية على أن تستخرج  شهادة الميلاد والرقم الوطني لاحقاً من خلال الاتفاق المبرم مع وزارة الداخلية.

مضيفاً أن توزيع الأطفال على الأمهات يتم بالقرعة، ولكن التغيرات التي ظهرت في المجتمع أوجدت ضرورة مراعاة التنوع في الاختيار . وحول تعليمهم أفاد بأنهم كانوا يدرسون في السابق في مدارس هيرمان العالمية ولكن نسبة لحدوث بعض الإشكاليات المتملثة في عدم تفهم المجتمع لحقهم في التعليم كغيرهم تم توزيعهم على المدارس التي تحيط بالقرية مراعاة لحالتهم النفسية .

التحديات

جملة من التحديات يعيش تفاصيلها هولاء الأطفال يشاركهم فيها الأمهات البديلات، ومن أكبر التحديات التي تواجههم يجملها مدير القرية في الوصمة الاجتماعية وقلة الدافعية عند الخروج للمجتمع.

 ويضيف أن المجتمع لا يزال هاضماً لحقوقهم وجاهلاً بأوضاعهم كأنما يلقي باللائمة عليهم في حين أنهم أجدر بالرعاية حسب فتوى مجلس الافتاء فهم يمثلون الفئة الأكثر يُتماً بجانب عدم وجود تمويل داخلي أو دعم في ظل ارتفاع التكاليف الدراسية خاصة في المراحل الجامعية وما فوقها، لافتاً إلى أن رؤية المنظمة تقوم على توظيفهم وتوفير حياة اجتماعية كريمة بتزويجهم من داخل أو خارج مجتمع القرية، مضيفاً أن  البنات في الغالب يتزوجن من الخارج، ولكن يشترط موافقة ذوي الأمر أو من ينوب عنهم لضمان عدم حدوث إشكاليات مستقبلاً.

غياب الدور الحكومي

على الرغم من الجهد المبذول من إدارة القرية في توفير متطلبات الحياة لهولاء الأطفال، إلا أنه تلاحظ غياب الدور الحكومي ممثلاً في وزارة التنمية الاجتماعية، وهي المسئولة عن دور الرعاية والجهة التي يتم مخاطبتها لمد القرية بالأطفال، وهو الأمر الذي تلمسته من خلال هذا التحقيق، فما الذي يمنع من سودنة هذه التجربة أو دعمها بصورة مباشرة .

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى