الأستاذ عادل الباز يكتب: التجاني حاج موسى.. من “قصر الشوق” إلى “عز الليل”

‏(1)

التقيتُ التيجاني حاج موسى لأوَّل مرَّة بقصر الشوق وكان ذلك في نادي النيل بالدويم في سبعينيات القرن الماضي، ولا أزال أذكُرُ تلك الليلة التي أُضيئت فيها الرتاين وصدح فيها التيجاني بأشعاره ونحن نتحلَّق حوله. كانت سُمعة التيجاني شاعراً غنائياً من (أولاد الدويم تتردَّد أغانيه على أفواه الجميع، تملأنا بالزهو، وكان صوت زيدان إبراهيم حين ينبعث من الراديو يصدح بـ “قصر الشوق” يقف كل المُحبين الحُنان(على أطراف أصابعهم في مقهى (حاج برعي) الشهير بسوق الدويم، حيث المذياع ذو السمَّاعات الكبيرة. كنتُ من أولئك المُحبين في زمانٍ مضى، ولعلي ما زلتُ، مين عارف؟ منذ تلك الليلة التي قرأ فيها التيجاني أشعاره بصوته الشجي، أصحبتُ أسيراً لإبداعه وشجو ألحانه، من (قصر الشوق) إلى  (عز الليل) . غادر التيجاني الدويم في أوائل سبعينيات القرن الماضي ليلتحق بجامعة القاهرة، ولكن كانت دار السلام لا تزال هنالك، فكان لا ينقطع عن حبه الأول. تعرَّفنا على التيجاني شاعراً ولاعباً حريفاً في الويست و الكُنكنان بنادي النيل، وكنّا نتحلَّق حوله طيلة فترة إقامته بالدويم، فأصبحنا أساطينَ في لعب الورق وأصفاراً في الشِّعر.

(2)

الدويم المدينة الرَّاقدة على الشط الغربي لبحر أبيض تفيض عذوبةً وغناءً وشِعراً، صهرت في جوفها ثقافات قبائل وأجناساً، كان المعلمون الشعراء والمُبدعون يأتون إليها من كل حدبٍ وصوب في السُّودان، وكان مسرح بخت الرُّضا عامراً بالفنون المُتنوِّعة التي يُقدِّمها الطلاب والأساتذة من كل بقاع السُّودان، هذا الجو الذي تربى في مناخه تيجاني شحذ وجدانه بالغناء والشِّعر الجميل.

(3)

في حضن أمه دار السلام عبدالله أبو زيد، نبع الحنان تربَّى شاعرنا الذي تُوفي والدُه بعد سنتين من ميلاده، وكانت دار السلام ولا تزال منبعاً عظيماً من منابع إلهامه الشعري. “أمي الله يسلمك ويديك لي طول العُمُر في الدُّنيا يوم ما يألمك”، وكم كان التيجاني محظوظاً حين تقاذفته الأمواج من حضن بيئة مُبدعة إلى أخرى، فصعد بتجربته الغنائيَّة إلى آفاق شتى. في حي العباسيَّة بأم درمان، هذا الحي العريق الذي ألهم إبداع عدد من الفنانين والملحنين والتشكيليين عائشة الفلاتيَّة، وأم بلينا السنوسي، وإبراهيم الصَّلحي، وصلاح أحمد إبراهيم، التقى التيجاني بزيدان إبراهيم والملحن الفاتح الكسلاوي فانفتح أمامه عالم الغناء من (قصر الشوق) وهي من أولى أغنياته لزيدان، وقبلها (ليه كل العذاب ليه كل الألم) ؟

التجربة الشعريَّة الغنائيَّة للتيجاني حاج موسى والتي عَبَرَت أزمنة مختلفة وبيئات متنوِّعة، لم تكن بعيدةً عن تجارب جيله عبد الوهاب هلاوي وحسن الزبير وغيرهما، إلاَّ أنَّ ثنائية (الجرح والزمن) التي ظللت كافة أغانيه تقريباً، شكَّلت بصمته الخاصة في جيله، كما وهب الشجن العميق تجربة بازرعة فرادتها الغنائيَّة.

(4)

(الجرح والزمن) متلازمتان تعملان كدالتين لإضاءة الحالة الشعوريَّة للشاعر، ولا يكادان ينفكان وبدونهما لا يستقيم شعر التيجاني. انظر لـ(قصر الشوق) الأيام بتتعدى (وجايي تفتش الماضي):

جايي تفتش الماضي وخلاص الماضي

ولَّى زمان وجفت مقلتي الباكية

ونامت من سنين أحزان.

شقا الأيام وآهاتي الحزينة ملازمني

من يوم ما شفت عيونك الحلوة

ويومها عرفت كيف العين مكامن ريد..

تباريح الهوى

بشكي ليكَ ما مظاليم الهوى

إمكن ألقى الزَّيي فيكم ضاق جراح الحب واتعذب كتير.

(5)

عز الليل

في عز الليل ساعة النسمة ترتاح

على هدب الدُغش أنا مساهر..

لو حاولت تتذكر تعيد الماضي من أول

تلقى الزمن غيَّر ملامحنا

ونحنا بقينا ما نحنا

وأنا الصابر على المحنة

لو كان الزمن نسَّاك أنا ما نسيت

أو في يوم زمن قسَّاك أنا ما قسيت..

لغة الحكي اليومي على بساطتها استطاع التيجاني أن يشحنها بعاطفة غنائيَّة عبرت مباشرةً إلى أفئدة المُحبين. ومن غرائب ما لاحظتُ، أنَّ هذه اللغة البسيطة نافست على صدارة الأغنيات العربيَّة الفصيحة التي تغنى بها عدد من الفنانين الذين رفدهم التيجاني بأشعاره.  فزيدان غنى لإبراهيم ناجي (قف تأمَّل يا حبيب الروح هب لي بضعِ لحظات سراع)، إلاَّ أنَّ (قصر الشوق) نافست شعر ناجي، وكذلك عز الليل نافست أمطرت لؤلواً.

(6)

عرف شِعر التيجاني حالاتٍ متغيِّرةً من الوجد والعشق، فمن اليأس المُطلق إلى حواف الرَّجاءات إلى الغُفران لمُشاركة التجارب الوجدانيَّة (إمكن ألقى الزِّيي فيكم). ومن أغرب ما لاحظتُ أنَّ أغاني التيجاني على الرغم من قسوة ثنائيتها (الجرح والزمن) إلاَّ أنَّها تمثِّل الطلب رقم (1) في حفلات الأعراس، وأذكرُ أنني ذات مرَّة قلتُ لترباس في حفل: “ياخي تاني ما تغني أغاني التيجاني في عرس”، فقال لي: “نعمل شنو الناس زهجانين من نُسوانهُم من يوم عرسهم، أهو العريس هسع طالب (جاي تفتش الماضي)”.

يا تيجاني حيَّاك الغمامُ ومتَّعك الله بالصحَّة والعافية، لقد عمَّرت وجداننا بالغناء الجميل ثلاثين عاماً، ومازلت تبرق في سماء المحبين رمزاً ملهماً لزمن جميل.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى