محمد طلب يكتب: (تيشة) اشيل كم طرقة؟؟؟

العيلفون تلك الوادعة لا هي القرية الغارقة في بحر نفسها ولا تلك المنفتحة بدرجات لا نهائية… ظلت لقرون وما زالت تحاول أن تحافظ على هذا الوضع…. ورغم ما يُقال إنها أرض (المحس) إلا أن الجغرافيا والتاريخ يقولان إنهم (نزحوا) إليها… ومن يعرفها جيداً يُدرك الكم الهائل من التداخل والتصاهر والمعايشة… المحس… الشايقية… الكواهلة… المسلمية.. العبدلاب والجعليين وغيرهم من قبائل السودان المختلفة والمتعايشة حسب أعرافها والقواسم المشتركة… في السبعينات وقبلها دخلها كم معتبر من أبناء الجنوب نتيجةً للحروب وكونوا مجتمعاتهم الصغيرة داخلها في أمان ثم اختفوا في الألفية الثانية وقلوا كثيراً…
في سنوات الإنقاذ استوطنها وما زال كم هائل من قبائل كردفان ودارفور أغلبهم من الجوامعة وأيضاً قلة من التامة والنوبة والفلاتة، في الستينات دخلتها مجموعة صغيرة من الهوسا والفلاتة واستقروا بها إمنين وانطلقوا منها في هجرات خارج السودان مثلها مثل بقية مناطق السودان…
تواكب كل ذلك مع حركة العمران الكثيفة من السبعينات إلى يومنا هذا والاغتراب المتزايد بمتوالية هندسية…. وخلاصة القول هذا ما يحدث في السودان عموماً وبشكل طبيعي إلا أن ما تتناقله الأخبار والأسافير هذه الأيام يوحي (بالأيادي الخفية) الدخيلة وصناعة الأحداث لأغراض معلومة ومخطط لها… معظم أهل العيلفون الآن شيوخ خلاويهم وتلاميذها من كردفان ودارفور… وكلنا أكل فول (علي فنتازية) وشرب بعضنا عرقي (مجوك) و(حواء) وزعه للأكابر (جون لمبة) وأصلح احذيتنا (تاسو) مثلما عزف لنا على (البنقز) مع أغاني الحقيبة وأخاطت نساؤنا وبناتنا (الشوالات) وهي ملابس واسعة و(الماكس) و(عش النمل) على يد (آدم ترجوك) مواكب الموضة العالمية في تلك الأيام و(منصور) الذي يصنع لك جلباباً بعد صلاة الصبح كي تصلي به صلاة العيد في ذات اليوم… وزهراء الفلاتية وأخواتها صنعوا وباعوا لنا (الفول المدمس) و (الدكوة) قبل ظهور (السحانات) والتسالي المحمص المُسلي و(عفاف الجنوبية) ستجدها الآن قد تعاقدت للنظافة وغسيل العدة في مناسبات الأعراس والشباب الآن يلتفون حول (زمزم الحبشية)… كل هؤلاء على اختلاف أجناسهم كانوا وما زالوا يديرون عجلة الحياة والعيش في العيلفون وهذ حال السودان والاختلاط والتعايش الآمن…
نقرأ هذه الأيام عن أصول عائشة الفلاتية وأبو داؤود وشرحبيل أحمد ومجموعة مشاهير العباسية وأم درمان في كل المجالات الذين تزج أسماؤهم في الأسافير هذه الأيام (مالنا نحن وذلك) فهؤلاء لم يعرفهم أهل السودان سوى أنهم مبدعون سودانيون أحبهم أهل السودان ولم يلتفتوا إلى أي شئ آخر مما تعج به الأسافير هذه الأيام، إنهم أهل السودان الذين أحبهم اهل السودان وأبدعوا وتغنوا بحب السودان… ولا شئ غير ذلك إنها بوستات (مصنوعة لأغراض ممنوعة)
أهلي في العيلفون تزوجوا من الجنوب ومن الغرب والشرق ودول الجوار مصر وتشاد ونيجيريا والشناقيط وغيرهم وانجبوا هذه العيلفون
والسودان الحديث يكاد يكون قرية كبيرة جداً يشبه العيلفون أو أي منطقة أخرى… فمعظم مدن السودان الكبيرة والمناطق القديمة تكونت بذات الطريقة واختلطت بها القبائل والأجناس والآية الكريمة أنزلها الله تعالى لذات الغرض تقول:-
(يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)
والملاحظ أن الإية تخاطب (الناس) كافة دون إشارة لدين أو عرق وتشير إلى بداية الخلق وأصله بعد إدم (من ذكر وأنثى) لتتكون الشعوب والقبائل وتنتشر في الأرض وجغرافيتها المتباينة فيؤثر ذلك في بنية الإنسان وشكله والغرض من كل ذلك (لتعارفوا) وتعارفوا هذه تحمل كل دلالات (المعاملة) بما فيها من مصاهرة وغيرها ثم تنتهي الإية بشكل واضح جداً إن (أكرمكم عند الله أتقاكم) و(علم الله بكل شئ)
ولو كانت للأنساب والقبيلة ذات قيمة عليا فليس هناك من هو أقرب إلى رسولنا الكريم في نسبه وقبيلته من (أبي لهب) فهو عم الرسول صلى الله عليه وسلم الذي نزلت عليه الرسالة وقالت:- (تبت يدا أبي لهب وتب) أما الذين يتشدقون بالدين في بلادنا فهم من يشعلون نار القبيلة التي خلقها الله (للتعارف) وليس (للتناحر) وهو عمل مضاد لأغراض الدين لو تعلمون…
نعود للعنوان.. دائماً عندما نتأمل الطُرف نجد أنها تحمل معانٍ عظيمة وتكون المفارقة هي المضحكة في موضوع (النكتة)…
(تيشة) رحمها الله هي سيدة عيلفونية ذات شلوخ مطارق وقيم إنسانية عالية اسمها عائشة بت (الجعلي) و أمها خليط من (الشايقية) و(البديرية) وزوجها خليط من قبائل (العسيلات) و (رفاعة) و(الميرفاب) و(المحس) وما تلاها من الأبناء والأحفاد والأسباط تصاهروا مع معظم قبائل السودان…
كانت تعمل معها في بيتها (فلاتية) أو (هوساوية) أتت بها الظروف مثلما أتت بنا للعيلفون جميعاً وعلى اختلاف تلك الظروف إلا أن كسب العيش والأمان هو القاسم المشترك بينها من (ود الأرباب) إلى يومنا هذا… وكانت (تيشة) تستأمن تلك (البنت) على كل شئ وفوق (راتبها) تغدق عليها بالمال والهدايا وفي نهاية اليوم تأخذ معها الطعام إلى أهل بيتها… في ذات يوم كانت المرحومة (تيشة) قد ركبت بص العيلفون في اتجاهها لزيارة مريض بمستشفى الخرطوم وبعد أن وضعت البنت (العمود) الكبير وسرامس الشاي والقهوة في البص قالت (البنت) بصوت عالٍ وهي تودع تيشة:-
(تيشة… تيشة اشيل كم طرقة) وهي تقصد كمية الكسرة التي يفترض أن تأخذها فكان الرد من تيشة سريعاً وذكيآً (شيلي كلو)… وهذه الطرفة تحمل كثيراً من القيم الفاضلة على رأسها (النظام) و(الامانة) و(المعاملة)… والإن نقول لمن يشعلون الفتنة (دايرين كم إقليم) وبما أن الحديث يدور عن كل الأقاليم نقول ما قالت تيشة (شيلو كلو)… لكن اعلموا أن (السودان للسودانين) ولا ندري ما تخفي الأيام لهذا السودان بكل ألوانه الجميلة… ولا حول ولا قوة الا بالله
سلام

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى