منى أبو زيد تكتب :  في الجدارة والاحترام..!

20 يوليو 2022م

“لم تَكُن ثورة الشعب المصري ثورة جياع كما تَوقَّع الكثيرون، بل كانت ثورة شعبٍ غاضب”.. د. جلال أمين..!

 

 

قبل نحو ثلاث سنواتٍ، انتقد أحد السياسيين، مؤتمراً صحفياً للحرية والتغيير، فقط لأنّ الجالسين على منصته كانوا ينتمون إلى أحياء بعينها مثل الملازمين والعمارات والرياض، ثم خاطب أبناء الهامش قائلاً “قوموا إلى ثورتكم واستكملوها يرحمكم الله، لم تسقط بعد”. وهي كما ترى نظرة ساخرة إلى الخلفيات الاجتماعية لبعض رموز الحِراك الثوري من زاوية طبقية – نظرة – تختزل منح صكوك الجدارة بالنضال السياسي – والقبول الشعبي –  في فئة الكادحين..!

تلك النظرة ذكّرتني حكاية صحفي أمريكي ألمعي ظل يُمني النفس بحوار غير مسبوق مع الروائي الكولومبي الكبير “غابرييل غارسيا ماركيز”. فكان الرجل ينهب الخطى ماضياً إليه وفي ذهنه تصور لجلسة فنية “متقشفة” تشبه عالم “ماركيز” الروائي، حيث المجد للفقير الكادح والبطولة المطلقة للمظلوم، وحيث لعنات الأدب الأبدية التي تنهال على رؤوس الأثرياء، الأدعياء، المتسلِّطين …إلخ.. فما الذي حدث..؟!

وقف الرجل البعيد عن واقع “ماركيز” الخاص ومحيطه الشخصي – البعيد كل البُعد عن واقعيته السحرية – مشدوهاً عندما رآه وهو يترَجَّل عن سيارة فارهة ويدلف أنيقاً مُنتعشاً من بوابة أفخر المطاعم. كان الشعور بالإحباط هو ردة فعل ذلك الصحفي الذي تحول انطباعه إلى استفهام إنكاري مفاده أن “كيف للمرء أن يكون مبدعاً وثرياً في آنٍ معاً”..؟!

دهشة الرجل استفزّت الكاتب العظيم فتبرّع للصحفي الشاب بمحاضرة بديعة مُرتجلة بشأن ربط الإبداع بالفقر وإنكار الناس على الكاتب الملتصق بقضايا الفقراء – وهموم الطبقة الكادحة – مظهر الرجل الثري. محاضرة ماركيز تلك كانت هجمة مرتدة بكرة الاستفهام نفسه “لماذا تستكثرون الرفاهية على المبدع”..؟!

ردة فعل ماركيز أعادني إليها ما كتبه ذلك السياسي بمنطق يشبه منطق الصحفي صاحب الحكاية، أما موقفي هذا فهو يدخل في قبيل مقام دهشة “ماركيز” مع اختلاف مقام “المقال” بطبيعة الحال..!

المنطق يقول إن نهوض الشعب بقيادة طلائعه ومثقفيه ونخبه إلى تغيير نظام الحكم بالقوة لا ولم يكن قط – عبر تاريخ البشرية – مُقتصراً على طبقة اجتماعية دون أخرى، بل إن مطلق أسباب ثورات الشعوب كانت أوجاعاً جَمعيَّة غائرة في اللحم الحي، بدرجات متفاوتة أقصاها الجوع الكافر وأدناها رفض الظلم – الذي يُوَحِّد كل الطبقات – وذلك أضعف الإيمان، إن كان للإيمان الثوري درجات بحسب ذلك المنطق الذي يستكثر الثورة على غير أبناء الكادحين..!

الثورة الفرنسية قامت بسبب رغيف الخبز، الثورة البرتقالية في أوكرانيا قامت بسبب فساد الانتخابات المحلية، الثورة البلشفية في روسيا اندلعت للقضاء على الإقطاعية وتحقيق المساواة “الاشتراكية”، الثورة الإيرانية قامت بسبب الفساد وانتهاك الدستور وضغوط سياسة التقشف على الشعب، ثورة المليون شهيد في الجزائر قامت لطرد المُستعمر الفرنسي..!

ثورة العشرين في العراق قامت لإنهاء الاحتلال البريطاني، ثورة يوليو في مصر أطاحت بنظام ملكي للقضاء على الإقطاع وإقامة العدالة الاجتماعية، ثورة الشباب الأخيرة في تونس ومصر اندلعت للتنديد بالتوريث وشجب الفساد. حتى الثورة الكوبية – نفسها – كانت غضبة شعبية على سوء أحوال اقتصادية، سببها الرئيسي الهيمنة الأمريكية على البلاد..!

الثورة في وجهها الرسمي هي “عملية إحلال وإبدال سياسي”، وفي باطن أمرها هي “حادثة انفجار لعبوة الظلم الناسفة للصبر والاحتمال”. لماذا يثور غير الكادحين – أو حتى الأثرياء -على حُكّامهم؟. سؤالٌ محسوم الإجابة عند كل عاقل مكلف، لكن البعض ينتهجون إعادة صياغته بتسويق صيغ “فطيرة” خالية من أملاح الحكمة وفقيرة إلى دسم المنطق..!

 

 

 

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى