استطاع أن يبني تجربة غنائية مختلفة عن حال السائد: أبو عركي البخيت.. غنائية مفعمة بالحوارات النغمية!!

 

كتب: سراج الدين مصطفى     17 يوليو 2022م

(1)

(أبو عركي البخيت.. نموذجي الطيب) عنوان لمقالة كتبتها في محبة الفنان العظيم أبو عركي البخيت.. توقفت فيها عند تفاصيل كثيرة تخص حياته وتجربته مع الغناء.. وكيف استطاع أن يبني تجربة غنائية مختلفة عن حال السائد والمطروح من التجارب الغنائية.. فهو اختط لنفسه أسلوباً غنائية تفرد به في وقت كانت الساحة الغنائية ذات مقاييس ومعايير صعبة لأنها كانت تحتشد بأسماء كبيرة مثل عثمان حسين وأحمد المصطفى وعبد الكريم الكابلي ومحمد وردي ومحمد الأمين وشرحبيل أحمد.. هذه الأسماء وبكل ثقلها ومنتوجها الإبداعي الثر والفخم استطاع أبو عركي أن يقتلع له (موضع نغم) بينها.. وما كان ذلك ليتأتى لولا أنه كان موهوباً بدرجة عالية أهلته لمزاحمتهم، بل ومنافستهم على (شباك النجومية) والتربع على القمة والتي ما زال يجلس عليها حتى الآن رغم معاناته في كل أزمنة الحكم التي حاولت أن تسكت صوته بالمضايقات والتغييب المقصود.

(2)

بتقديري أن الاستماع لأبو عركي البخيت ليس هو الاستماع لمجرد مطرب عادي أو مؤدٍ يهوم بك في دنيا من الخيالات والأوهام.. فهو في أصله الإبداعي متجاوزٌ لغناء (التعسيلة والغمدة) لأن الغناء عنده قضية تتسع وتفتح أحضانها للإنسان.. ولعل مجمل أغنيات أبو عركي البخيت تبدو وكأنها سيرة ذاتية أو تلخيص لحياته بكل ما مرت به من عثرات منذ أن كان طفلاً في مدينة ود مدني حينما كان يذهب أقرانه ومن هم في عمره إلى المدرسة.. كان أبو عركي يرتدي (لبس خمسة) ويقضي سحابة يومه ما بين أصوات الحديد في المنطقة الصناعية.. وتلك الوضعية الشاذة من المؤكد بأنّ لها تأثيرات نفسية عليه ولكنها لم تهزمه.. حيث كان يذهب للعمل صباحاً وفي المساء يذهب ليتلقى الدرس في فصول (محو الأمية) ورغم تلك الأجواء بدأ النبوغ الباكر لأبو عركي البخيت وتميز بين أقرانه بنادي الشعلة في ود مدني، حيث كان يتقن أداء الأغاني الهندية والغربية التي كان يحفظها من الأفلام في السينما.

(3)

تلك الأغاني الهندية والغربية ساهمت في التخلق الأول لموهبته .. غير أن أبو عركي البخيت كان مفتوناً بالفنان الكبير شرحبيل أحمد ولعل محبته له جعلته ذات يوم أن يذهب للإذاعة برجليه من الخرطوم إلى أم درمان حيث مقر الإذاعة حتى يلتقي بشرحبيل أحمد ولكن حظه العاثر لم يسمح له بمقابلته، حدث ذلك حينما جاء مشاركاً في مهرجان المديريات الذي كان يقام بالعاصمة على أيام حكم الرئيس إبراهيم عبود وتلك هي كانت نقطة انطلاقته على المستوى القومي.

(4)

مثل دخول أبو عركي البخيت الى معهد الموسيقى نقله كبرى في حياته الإبداعية، حيث تم قبوله كحاله استثنائية، وكان يشترط وقتها الحصول على الشهادة الثانوية ولكن إدارة المعهد وقتها رأت إسقاط ذلك الشرط للمتقدمين الذين تتفوق موهبتهم وقدراتهم العالية .. وبحسب الأستاذ معاوية حسن يس تغير مسار أبو عركي الفني تماماً بعد التحصيل العلمي فصارت موسيقاه مفعمة بالحوارات النغمية الكاملة وتسلك الطرق العلمية السليمة وإن كان تأثير الموهبة النادرة يضفي عليها المزيد من التألق والبريق والطعم المغاير والجديد، ونتيجة لذلك التطور الأكاديمي في حياته الإبداعية بدأ يظهر أثر التعليم حيث قدم أغنيته الفارعة بخاف التي كتبها الشاعر حسن السر ، تلك الأغنية من جمالها وروعتها فازت بالجائزة الثانية لمهرجان الأغنية العربية بدمشق في مطلع سبعينيات القرن الماضي، ثم بعد بخاف جاءت أغنية (نوبية) للشاعر محمد الحسن عثمان دكتور وفي ذات المرحلة ظهرت أغنيته الكبيرة ( حكاية عن حبيبتي) للشاعر الراحل سعد الدين إبراهيم، وهنا يجب القول ان أبو عركي البخيت تغنى لسعد الدين إبراهيم بأغنية ثانية اسمها (الحب والحرية) ولكنها لم تظهر للوجود وظلت حبيسة الأوتار حتى هذه اللحظة.

(5)

من المهم بتقديري الوقوف في محطة هامة في حياة أبو عركي البخيت وهي علاقته بالفنان الكبير محمد الأمين، وهنا لا بد من الإشارة الى الحادثة التي حدثت في تكريم الفنان عبد الكريم الكابلي عند عودته الأخيرة للوطن، حيث انتشر مقطع فيديو يصور أبو عركي وكأنه قام بإبعاد محمد الأمين حينما كان يغني في أغنية (جبل مرة) وهو ممسك بالكابلي، تلك الحادثة حاول البعض تصويرها وكأن ثمة خلافات شخصية بينه ومحمد الأمين، ولكن التاريخ يقول عكس ذلك تماماً، ففي أعقاب مهرجان المديريات توثّقت علاقتهما حيث جمعهما سكن واحد رفقة خليل اسماعيل وصالح الضي في منزل واحد بأم درمان.

(6)

في تلك الفترة لحن له محمد الأمين بعض الأغنيات منها (وعد) المشهورة بمقطعها الأول (بوعدك يا ذاتي يا أقرب قريبة .. الليلة بهديك دبلة الحب والخطوبة) وهي من كلمات الشاعر فضل الله محمد ، ثم قدم له أغنية (طريق الماضي) في العام 1966 وللتأكيد أكثر على عمق العلاقة بينهما تلك السهرة الخاصة التي قدمها الإذاعي محمد خوجلي صالحين في برنامجه (مع أهل الفن) في عيد الفطر 1965 احتفاءً بمقدم محمد الأمين الى الخرطوم في زيارة فنية، حيث يقول الأستاذ معاوية حسن يس في الجزء الثالث من كتابه (من تاريخ الغناء والموسيقى في السودان) حيث اصطحب محمد الأمين معه أبو عركي البخيت وعندما طلب من الأول أن يستهل السهرة بأغنية، قال محمد الأمين إنه غنى قبل نحو شهرين أو ثلاثة في عدد من البرامج وهو يريد أن يتيح الفرصة هذه المرة للصوت الجديد أبو عركي البخيت، فتحوّلت السهرة إلى لقاء مع أبو عركي لم يشارك فيها محمد الأمين بغير أغنيتين.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى