سراج الدين مصطفى يكتب: الحلنقي.. حروف لا تشيخ ونبع سلسال لا ينضب!!

نقر الأصابع.. سراج الدين مصطفى

الحلنقي.. حروف لا تشيخ ونبع سلسال لا ينضب!!

(1)

الحلنقي.. شاعر وسيم المفردة ما في ذلك شك.. كل أغنياته التي كتبها عبارة عن منحوتات جدارية وجديرة بأن تبقى في مقدمة الذهن لا تطالها عوامل الزمن لذلك ظلت متقدة لا تعرف التثاؤب ولا النسيان.. لذلك حينما نقول الحلنقي الشاعر الخالد نعني المفردة تماماً بكل ما تحمل من مضامين وأخيلة.

وأنا لغتي جد قاصرة وتعيش حالة من التقزم حينما أحاول أن أكتب عن إسحق الحلنقي الذي سكن حنايا الناس قبل حتى أن نولد.. لذلك من البديهي وجدنا أنفسنا نعشقه حتى وإن لم نجد تفسيراً ولكن يظل (الحب في ذاتو مبرر كافي).. لأن أمثال الحلنقي حبهم مثل الفطرة والغريزة التي نولد بها، لذلك كلنا عشقناه من خلال أغنياته وأشعاره قبل أن نلتقيه.

(2)

الحلنقي له مقدرة غريبة في أنه يعيش أحاسيس غيره ويستلف ألسنتهم والمتمعن في ديوان هجرة عصافير الخريف يجده كتب في مواضيع شتى ومختلفة ولكنها رغم تباينها واختلاف مشاربها ومضاربها ولكن تلتقي في هارموني عجيب لأن ثمة ما يجعل الاشتراك مفتوحا ودون قيود أو شروط.. فهو حينما كتب أغنيته الفارعة “عيش معاي الحب” هل يعني ذلك بالضرورة أنه عاش ذات الموقف فصوّرها لنا قائلاً:

عيش معايا الحب، عيش معايا حناني ..

خليني أنسى سنين، عشتهم وحداني ..

أيه كان يضيرك تسأل يوم علي يا غالي ..

وأنت وحدك عارف همي عارف حالي..

كيف أواصل صبري في الطريق الخالي.

كيف بدونك تصبح الليالي ليالي.

 

اسحق الحلنقي

(3)

في لحظة ما من عمري تأملت تلك الكلمات وأحسست أن الحلنقي كان يعيش معي تجربة مرت بحياتي.. وأظن أن كثيرين غيري عاشوا ذات الإحساس.. وتلك هي قيمة الشاعر الحقيقية يمنحك الدخول لعوالمه ويستلف لسانك ليكتب ويوصف ويعبر عن حالة وجدانية خاصة ولكنها تصبح في منتهى الشيوع والذيوع والاشتراكية.. وأظن أيضاً أن قدرة الحلنقي على تصوير المشاعر هو إجابة على سؤال الذين يستفهمون عن سر بقاء وخلود وانتشار الحلنقي في وجدان الناس أجمعين.

(4)

اغنية حمام الوادي هي واحدة من ادهاشات الحلنقي الشعرية، فهي أغنية ذات وقع خاص وتحتشد بالدموع وحلم الرجوع لأرض تحمل ذرات ترابها الذكريات ومراتع الصبا وحكايات الحب الأول.. ولأن ما بين سطورها تسكن الكثير من التفاصيل الأنيقة وتنام على مسح أصابعها تنهدات الألم والترحال ومرارة الغربة.. ومن يعيشون بعيداً عن جغرافيا الوطن وحدهم يعلمون مدى تأثيرها وقدرتها للدعوة للبكاء.

(5)

في مرة من المرات، كنت أجلس مع أستاذي الجميل الشاعر الفخم سعد الدين ابراهيم، لحظتها كنا نتسامر وتطرقنا للشاعر الحلنقي وعن أغنياته وعن عددها وعن عدد الذين تغنوا له.. فقال لي سعد الدين ابراهيم بكلمات ذكية (من الأفضل أن نحصي الذين لم يتغنوا له) تلك الإشارة الذكية من سعد الدين تعني أن الذين تغنوا لإسحاق الحلنقي لا يمكن أن نحصيهم أو نجد لهم عدداً.. فكل الفنانين الكبار تغنوا له وأبرزهم محمد وردي ومحمد الأمين والأخير قال ـ أي محمد الأمين ـ انه تغنى بأجمل ما كتب الحلنقي.

(6)

حينما قرأت تصريح محمد الأمين حول أنه تغنى بأجمل قصائد الحلنقي كنت أوافقه الرأي لسبب بسيط أنه تغنى له بأغنية (تتعلم من الأيام):

بتتعلم من الأيام مصيرك بكرة تتعلم ..

وتعرف كيف يكون الريد وليه الناس بتتألم..

ليس بتتعلم من الأيام وحدها فهناك (غربة وشوق):

جيناكم يا حبايبنا بعد غربة وشوق

نغالب فيه ويغالبنا

ونكتم آهة.. تظهر آهة ..

تتعبنا.. حنين لشوفة الغالين

مدوبنا.

(7)

ثم تغنى له بأغنية (وعد النوار) والتي حينما ظهرت في السبعينيات كانت بمثابة فتح جديد في عالم الموسيقى، لأن شكل تأليفها انتحى شكلاً مغايراً لم يكن معهوداً للأذن السودانية وذات الأغنية عبرت عن مشروع محمد الأمين الموسيقي والألحان المختلفة التي يريد أن يضيفها.. ومحمد الأمين مديون للحلنقي بهذا النص المتفرد والذي يستوقف الكثيرين بذات مقطع:

لو وشوش صوت الريح في الباب

يسبقنا الشوق قبل العينين

إنها علاقة وجدانية يصعب تكرارها في هذا الزمن لأنها قامت على الأصالة والابداع الفطري والموهبة العالية والتلقائية والعذوبة والشجن المتجدد الذي تحتشد به أشعار الحلنقي .. لذلك سيظل صاحب حروف لا تشيخ أبداً.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى