محمد طلب يكتب: رحل صديق الكتاب الوفي

رحل عنا في العشر الأواخر من هذا الشهر الكريم قاضي المحكمة العليا السابق بالسودان ومستشار وزارة العدل بالإمارات الشريف النظيف العفيف مولانا محمد عبد الرحيم صباحي الصديق الوفي للكتب والمكتبات ومعارضها… سوف تبكيك الكتب واوراقها وكلماتها وعباراتها الجميلة الني كنت تحفظها باللغتين… تنتحب الان الحروف العربية والإنجليزية لهذا الفقد الكبير… فقد رحل صديقها الوفي، لقد كنت قارئاً نهماً قليل الكلام كثير القراءة والاطلاع لا تشبع من الاستزادة بالعلوم والمعارف، لم أر مثلك إطلاقا في اهتمامه بالكتب والقراءة والاطلاع… كان لك أساليب عجيبة مع هذه الهواية التي لازمتك منذ سن باكرة وحتى آخر ايامك… قال لي استاذ محمد عثمان عبد الرحمن وهو يسألني عن صحتك بعد عودتك من رحلة العلاج في ماليزيا (إذا كان (سيد محمد) يستطيع مسك الكتاب وقراءته فهو بخير فلا تقلقوا) وقد صدق في ذلك فمنذ أن صعُب عليك رفع الكتب والاطلاع أصاب صحتك التدهور والاعتلال…. كان ارتباطك بالكتب وثيقاً بدرجة مذهلة… كنت أجد الكتب تحيط بسريرك تنام وتصحو عليها (ما بتبيت القوى بدون قراية) كنت استغرب طريقتك في قراءة هذا الكم الهائل من الكتب….
أحيانا كثيرة أجدك تقرأ ثلاثة كتب في وقت واحد… تقرأ في السياسة والأدب والفكر … تضع علامة توقف عند صفحة في كتاب السياسة ثم تدلف لبوابة الأدب كاسرا حاجز الرتابة وتضع علامة توقف لترمي نظرك وعقلك بكامله على بوابة كتاب الفكر… تستأنس بهيكل والمتنبئ ثم العقاد وطه حسين…. لا فرق عندك بين ما يُكتب بالعربية او الإنجليزية لأنك تجيد كليهما، وتقرأ لشكسبير وتشارلز ديكنز مثل قراءتك لنجيب محفوظ والطيب صالح… تطالع تاجر البندقية مثل مطالعتك لموسم الهجرة للشمال وتقرأ oliver Twist أو Great Expectations وكأنك تطالع الجنقو مسامير الأرض لبركة ساكن…..
في عمر باكر وسن صغيرة كنت قد أكملت روايات تشارلز ديكنز A Tale of Two Cities وأعدت قراءة A Christmas Carol وعشقت الأدب الروسي باكرا فكنت صديقا لمؤلفات كُتاب الأدب والسياسة والفكر الروس أمثال (مكسيم غوركي) (وتولستوي) و(دوستو فيسكي) وهضمت ما كتبه المفكرون في النظرية الاشتراكية… والاشتراكية الطوباوية وما كتبه (سان سايمون) و(فلاديمير لينين)
كما أجدك متابعا لكل الإصدارات الجديدة في القانون والأدب والتاريخ والفكر والسياسة….
ذات مرة ونحن في الإمارات سمعتك تسأل احد أصدقائك عن كتاب (بيت العنكبوت) الذي كان ممنوعاًً وقتها فتواصلت مع الأصدقاء خارج السودان وبذلت مجهودا كبيراـ فوصلتني نسختان خلال أسبوع وفرحت جدا باني سوف أهديك كتاباً لم يقع في يدك بعد وزرتك في البيت لتسليمك نسخة من الكتاب فوجدتك قد تحصلت على نسخة منه وأكملت قراءتها وأخبرتني بمحتوى الكتاب وقلت ساخراً (انه يفضح وسخ جهاز الأمن بالأدلة) قبل أن اطلع على ذلك في نسختي….
يمكن القول إن الكُتاب قد تناوبوا على اطلاعك في كل المجالات وهم من الذين يعلمون ذلك دون أن يعرفونك….
كنت تزورني في عجمان كي اصحبك لمعرض الشارقة الدولي للكتاب وتحدثني عن المكتبات في السودان وأيام ازدهارها… وكنت أحياناً تحضر وترجع دون أن نعلم بذلك الا منك لاحقاًً
كنت تركب المواصلات العامة من ابو ظبي إلى الشارقة حتى تستطيع إكمال الكتاب الذي تحمله معك وتفعل ذلك مع كتاب آخر في رحلة العودة أو تواصل في الأول أن لم تكمله…
ولديك مهارة عجيبة في اختيار كتاب هذه الرحلة وحجمه ومادته ويختلف اختيارك إن كنت تنوي المبيت معنا عن اختيارك ان كنت تنوي العودة..
كنت تقرأ في كل المجالات، مكتبتك تحوي سلسلة المجلدات الضخمة والمراجع والكتب المتوسطة الحجم والكتيبات الصغيرة غنية المادة والقصص والروايات العالمية
تتابع إصدارات هيكل ومنصور خالد في السياسة
تقرأ في التاريخ وتربط الأحداث ببعضها البعض…
قرأت لجبرائيل غارسيا (الحب في زمن الكوليرا) و(مئة عام من العزلة ) و(وقائع موت معلن)
كنت واسع المعرفة وكثير الاطلاع في كل المجالات.. تعطي كتب الفلسفة وعلم النفس أهمية… قرأت (لابن خلدون) و(افلاطون) و(سقراط) وكل ما كُتب عن مؤلفاتهم
مررت على (سيكولوجية الجماهير) و(عالم صوفي) وتغوص في بطون الكتب والمراجع وتكتب على الهوامش وتظلل المهم والأهم وتحفظ العبارات الجميلة باللغتين العربية والإنجليزية…
كنت حريصاً جدا على عينك أكثر من غيرها حتى لا تفقد متعة القراءة والاطلاع… سمعت منك قصتك مع طبيب العيون الروسي بابو ظبي الذي أصبح بسبب هذه القصة طبيب كل أهلنا من العيلفون بالإمارات وأجرى عمليات لوالدي والوالدة وصار صديقنا…
لقد هضمت يا سيدي النظرية الراسمالية وقتلت الاشتراكية بحثا وقرأت كل ما كتبه الإسلاميون في الاقتصاد الإسلامي كما قرأت للسياسيين في بلادنا المكلومة… للمحجوب والصادق المهدي والترابي ومنصور خالد وحسن مكي ونقد… وتعجبك أشعار محجوب شريف الثورية لأنها تعضد انتماءك المبدئي للطبقة الكادحة وبحثك الدائم عن العدالة في الارض
شاهدت الفرح يغمرك بانتصارات الثورة ورشحوك رئيساً للقضاء فاعتذرت وحزنت حتى آخر ايامك علي سرقة ثورة الشباب والشهداء وها أنا أكتب عنك في 29 رمضان وذكرى فض الاعتصام رحمك الله وشهداء الثورة.
كنت لا تعير الكتب الا لقلة تعرفهم وتعرف اهتمامهم بها وتختم عليها بختم مكتبتك وتعود إليها وتعود إليك إلا انك لم تبخل على إطلاقا وتنصحني بالمحافظة على الكتاب وارجاعه كما هو… حدثتني ذات مرة عن مشروع المكتبة بعد عودتك السودان… واعلم انك صرفت عشرات الآلاف من الدراهم من أجل نقل الكم الهائل من الكتب التي جمعتها خلال تواجدك بالإمارات لما يقارب الثلاثة عقود من الزمان، لم أر في حياتي قطعاً مغتربا يشحن (كونتينرز) من الكتب التي قرأها إلى بلاده… أيضا قبل ذهابك الإمارات خزنت (صناديق توتيا ضخمة) بمنزلك بالعيلفون ظلت كما هي حتى عودتك الأخيرة من الإمارات ونقلها لمسكنك في المعمورة قد كنت نادرا سيدي النسيب الحسيب (ابا هدى) التي كنت تقول انها أقرب الأحفاد شبهاً بوالدتك (حاجة نفيسة) شكلاً ومضموناً وأنها تحمل قلباً مثل والدتها وانت محق في ذلك
لقد كنت متابعا دقيقا للأحداث تقرأ صحيفة الخليج بعد أن تدبسها بأربعة دبابيس وكانت لك دباسة خاصة لهذا الغرض كما لك علاقة خاصة بالراديو وتشاهد التلفاز وتتابع الأخبار وكل ما يدور في السودان… ادهشتني عندما اخترت (هدى عربي) لتغني في زواج ابنك ( بابكر) فانت تطرب للموسيقى وتنتشي للأصوات الجميلة
أين تجد كل هذا الوقت سيدي لتمارس كل هذا النشاط وبهذه الحيوية أكاد أجزم أن الله قد بارك لك في وقتك وعمرك
من الملاحظات العجيبة والجديرة بالاهتمام أن (سيد محمد) لا يحب الموبايل ولا يحمله ولم يمتلكه… حكى لي انهم في الوزارة ملكوه موبايل لضروريات العمل فرفضه تماما يقول عنه أنه (جهاز مزعج جدا) يخترق خصوصية وقتك وحياتك الخاصة وربما يعكر صفوها
في ساعة أنس وصفاء تحدثت إليه بضرورة ترجمة هذا الكم المعرفي الهائل المخزون في ذاكرته إلى كتب ومؤلفات فضحك وقال لا أستطيع الكتابة في هذا العمر فقلت له انا على استعداد تام للمساعدة في هذا الأمر عبر تسجيلات صوتية أحولها إلى نصوص على (اللابتوب) اطلعك عليها لتعديلها واجازتها.. وعندما شعر اني احاصره تضايق وقال عموما انا لا احب الأضواء والإعلام دعني افكر وارد عليك فعلمت انه لا يحب ذلك حتى انتقل الى ربه ودُفن مع نعشه الطاهر كم هائل من العلم والمعرفة تستحيل عودتها
رحمه الله رحمة واسعة وادخله الجنة فقد كان رجلا فريدا ومتفردا قل أن يجود الزمان بما يحمل من صفات واخلاق.

29 رمضان 1443هـ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى