دروس من تجربة الكيزان (1-2)

تجربة الإنقاذ لم تكن تجربة أحادية خالصة… لم يتحكم في مسيرة الثلاثين عاماً (الكيزان) وحدهم.. بل أن الكيزان في السودان لا يشبهون ولا يتوسمون أن يشبهوا الإخوان المسلمين في كل العالم العربي… وكغالب الأحزاب والجماعات الفكرية والسياسية السودانية التي تأثرت أفكارها الأساسية من محيط السودان، قام التنظيم الإسلامي السوداني  بسودنة حركته وتوزعت قلوبهم على مساقط وعي وجهل واقعهم..

ذلك أن بلادنا تأبى إلا أن تضع بصمتها على كل المارين والعابرين وابن السبيل والسابلة.. وعرقنا دساس بما يكفي لنحافظ على لحمتنا وننجو ببيضتنا.. ولعلها سمة وممارسة سودانية خالصة جعلت حتى الزوجة الإنجليزية تتبدل (في النكتة الشهيرة) وبعد عام كامل من اجتهادها المغلق لصالح تحويل (البلولة) إلى إنجليزي.. لتصل لمرحلة أن تقول بلكنة موغلة في (البلولبة):

(البلولة اتدلى السوق).

لا طاقة السودانيين في حمل أفكار أخرى دون مخالطتها بالمحلب في توب أحمد.. فنحن شعب جذره عظيم الكرامة وعصبه المركزي أصيل وحي لا يقبل تبعية ولا يرضى التجاهل والتجهيل. 

كان الخيار الكبير الذي اجتهد (الكيزان) أن يفعلوه هو توسيع القاعدة الاجتماعية لمشروعهم، وبذلوا جهدًا مضنياً وحثيثًا متواصلاً لكنهم فشلوا!!

على المستوى الإثني والعرقي كان تنظيمهم -ابتداء – قادراً على إدارة التنوع بلا مشاكل ولا تعقيدات بلا أدنى ملامح للاستبعاد الاجتماعي.. وكان لأطراف السودان وهامشه نجوم حاضرة في الصف المتقدم من التنظيم وفي غالب هياكله والمستويات..

كانت مشاركتهم وافرة وضاجة بالتفاعل الإيجابي ولم يكونوا مجرد كومبارس أو (تمومة جرتق).. 

شهدت قطاعاته تصعيداً متواصلًا لناس (الضهرة).. بينما كابد (أولاد نمرة 2) هامش التأثير بلا أفضلية ودون مساهمات فارقة تذكر وبالأخص في البدايات..

لكن الخلطة هذه بحسب أفكار الترابي لا تفي بمطلوبات إدارة الدولة.. ولابد من الانفتاح على (الأغيار) واستقطابهم زرافات ووحداناً، إما بالانخراط والعمل المشترك بتوسيع المواعين التنظيمية والتخلي عن صرامة التنظيم بشروط انتخابه الخاصة، وصرامة الشروط المطلوبة للانضواء تحته، وهذا اتجاه.. أو ترتيب صفوف وطنية مساندة بحد أدنى من الاتفاق على خطوط عريضة والأعذار والتجاوز فيما فيه الاختلاف..

كما كان مطروحاً في وقت لاحق استحضار التيارات المعادية دون التزامات متبادلة إلى ساحة المشاركة السياسية باتفاق غير مكتوب على إبطال (بطاريات الصواريخ) العدائية المتبقية لدى الطرفين.. والإقرار ببعض  المغايرة مع السماح بهامش لا بأس به للمناورة وتهدئة روع القواعد التي اكتفت بالغتغتة والدسديس..

وساهم في هذا التهادن انشغال الطاقم الأمني النظام برمته في  رصد وملاحقة (التيار المفاصل) من الحركة الإسلامية!!

أيام معركة التوالي تحكي كيف وقف قليل من أعضاء التنظيم خلف الترابي لمحاولة ابتدار التعددية وبالقانون… مرّ قانون التوالي السياسي (بالتيلة)، لكن كان من الواضح أن روحه لم تسد ولم تمر !!..

أهلك الترابي تنظيمه وقطع أوصاله وغامر بسطوته وسلطته حين أصر معانداً على مواصلة رؤيته لتوسيع القاعدة الاجتماعية للنظام بينما وقف الغالب خلف البشير  وقبضته، محاولًا تأكيد روح المشاركة الشعبية بإقرار ترشيح واختيار شعب كل ولاية لواليهم…

حتى الجماهير التي حيك التدبير الترابي لصالحها والنخب المثقفة والأرصفة المستريبة والمعادية للنظام لم تُخفِ ميلها لميلان الكفة ضد الترابي!!

أهيض المشروع في صرخته الأولى، ومثل قشة البشير التي قصم بها ظهر الإسلاميين..

لتنتصر القبضة وتبدأ خطى المفاصلة..

بعد المفاصلة واستبعاد الترابي استعيد مشروع الترابي المرفوض والخاص باختيار الولاة شعبياً.. وأطلق إلى حيز الوجود ولكن دون تلك الروح التي أطلقته…

خلال العشرين عاماً التي تلت المفاصلة، كان النظام يحاول إنجاز مشروع توسيع القاعدة الاجتماعية دون جدوى..

  دخل الكثيرون إلى الحوش الكبير افراداً وتيارات.. اتفاقات فردية وجماعية، ولكن أزمة المشاركة الاجتماعية وتوسيع القاعدة ظلت أزمتهم التي لا تجد حلاً.. فكل تلك الإضافات والزيادات الكمية لم تلغ عنهم عبء حمل صورتهم لدي العامة كمستأثرين بالسلطة..

ليصير الكوز مقياس رسم للغول!!

بعد عشر سنوات من عمر الإنقاذ كان في رؤية وخطة الإسلاميين وجوب التوالي والطوع في اختيار التنظيم والناس لحركتهم وقيادتهم، وبعد ثلاثين عاماً مضت الحركة الجماهيرية الأكثر تأثيراً وتفاعلاً إلى مغاليق أكثر ارتسافاً وأمر قيداً.. 

حلت عليها جماهير ثورة ديسمبر ولا زال مصيرها بين يدي رجل واحد، لا يعرف أحد بمن سيبدأ وإلى أين سينتهي وهل سينام أم سيضحي بالجعد بن درهم إلا عباس رضي الله عنه. 

-نواصل-  

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى