أسفار وترحال

قراءة وتأملات في شعارات الثورة والتغيير

حرية سلام وعدالة.. المقاصد النبيلة للبناء

“الدم قصاد الدم” وتأسيس الكراهية ورفض العفو

وزجر العدالة الانتقالية والحقيقة والمصالحة

(1)

عندما يهتف الشباب في الشوارع والطرقات، وهم يواجهون الرصاص بشعار “حرية سلام وعدالة”، يقشعر البدن الصحيح ولا يملك صاحب النفس السوية إلا الإعجاب بعزيمة هؤلاء الفتية والصبايا الصغار، وهم ينشدون السلام في بلد مزقتها حروب الأطماع الذاتية وحروب العنصرية والجهوية.. وحروب المصالح، وكلما أطفأ العقلاء نيران حرب نفخ كيرها المستفيدون من الموت.. أشعل الساسة نيراناً أخرى.. اشتعلت الحروب في بلادنا بسبب “الهوية” والاقتصاد والحكم بعد أن تشوهت بلادنا.. وكثرت النتوءات والندوب على ظهرها الذي أوهنه السير في دروب المهالك.. ولكن الشباب الذي نظر وقدر أن مستقبل وطنه في السلام والحرية التي مات من أجلها الآلاف، وهي قيمة دينية وحضارية وإنسانية.. حرية الإنسان في الاعتقاد وفي الأكل والشرب والتعليم والحركة والسكون والحرية.. تحتل مكاناً مرموقاً كثقافة في الوعي السياسي العام في المجتمع السوداني بطبيعته الذكورية.. ولا تذكر الحرية السياسية، إلا وحضرت التعددية والديمقراطية والأحزاب بشعاراتها رغم أن الديمقراطية في هذا البلد ظلت مأزومة لا تقيم إلا بضع سنوات، ويطل علينا عسكري من الغيب يأتي محمولاً على أكتاف السياسيين الانتهازيين ليطأ بحذائه المتسخ ثمرة نضال سنوات وكفاح جيل أرهقته المسيرات والتظاهرات في الطرقات.. ولكن ديمقراطيتنا مثل جمهورية “الفيمار” في ألمانيا كما يقول د. منصور خالد في كتابه جنوب السودان في المخيلة العربية الصورة الزائفة والقمع التاريخي.. وجمهورية “الفيمار” عرف عنها القصور الذاتي والضعف الهيكلي والحريات الفوضوية، وقد أنجبت تلك الديمقراطية الفاشية.. وإذا كانت ألمانيا قد ابتليت بفاشية واحدة، فالسودان قد أصبح وطناً متخصصاً في إنجاب “الفاشست”، فهل الشعارات التي رفعها الشباب وساروا بها في الطرقات وحلموا بها في عيونهم حقيقة أم محض أحلام؟؟ وهل يقف في وجه تلك الشعارات البراقة صاحب عقل وبصيرة وقلب؟؟ وهل رفعت تلك الشعارات من أجل عودة الأحزاب التي كانت حاضرة في المشهد وغائبة في ذات الوقت.. والإمام الصادق المهدي يمد لسانه ساخراً من ثورة الشباب بأنها “بوخة” “مرقة” في أبشع تصوير كاريكاتوري جاءت به مخيلة الإمام للتقليل من شأن الثورة وشعاراتها عوضاً عن حديثه عن “طلق الولادة” وطلق ما قبل الولادة!!

إذا كانت شعارات الشباب قد تجاوزت الموروث القديم الهزيل إلى مخاطبة قضايا العصر في السلام والحرية والعدالة.. فإن القوى التي ترفض مثل هذه الشعارات تعتبر من الماضي والعيش على أمجاد الماضي مثل التذكير بدور الأحزاب في الاستقلال.. وهي لم توطن ديمقراطية ولم يترك العسكر للحرية أن تزدهر.

(2)

أما شعار السلام الذي رفعته قوى الشباب، وللسلام والحرب قصص وحكايات لمن عاش الحرب واقعاً والسلام حلماً.. وبعد توقيع اتفاقية “بيرقن” لوقف إطلاق النار في المنطقتين عام 2003م، بضغوط من الولايات المتحدة ورعاية منها توقفت أصوات الرصاص في جبال النوبة.. وبدأت مرحلة الحلم باستقرار الإقليم المحزون بالنزوح والموت.. الاتفاقية التي وقعها طرفا الحرب حكومة السودان والحركة الشعبية قطاع جبال النوبة لم تخاطب جذور الأزمة السياسية التي دفعت المقاتلين لحمل السلاح، ولكنها عمدت لإجراءات انتقالية بوقف الحرب لتهيئة الإقليم للدخول في حوار سياسي حول القضايا الخلافية، والعقل الغربي عرف تاريخياً بالعقل “المجرب” لا العقل النقلي مثل سكان الشرق من الكرة الأرضية ولتجريب وقف إطلاق النار كعامل مساعد في تحقيق السلام، جعل الغرب جبال النوبة حاضناً لمثل هذا الحقل التجريبي..

 والحديث عن السلام يبعث الشجى في النفس، ونستعيد تلك الأيام وغازي صلاح الدين العتباني، قد أسند إليه الرئيس السابق ملف المفاوضات.. ولأن “غازي” كان مشرفاً على مسار السلام في المنطقتين.. قد جعل توقيع اتفاق الهدنة سانحة لحوار عميق بين العقل المركزي والأطراف.. والإصغاء لأهالي جبال النوبة.. والنيل الأزرق.. أمضى الرجل أي “غازي” ثلاثة أيام ما بين كادقلي والدلنج ولقاوة.. وبعض أهل جبال النوبة ينطقون اسمه “قاذي صلاح الدين” وبعضهم ينطق “كازي صلاح الدين”، وفي تلك الليلة الصيفية الباردة بعد هطول أمطار خفيفة جنوب كادقلي تحدث قادة النظام الأهلي وبعض زعماء الأحزاب وأغلب المتحدثين من قادة حزب المؤتمر الوطني نهض الأمير كافي طيارة البدين أمير وسلطان مناطق كانشا وأم دورين وشات الصفيا وشات الدمام وطروجي والبخس.. وكافي طيارة يتحدث “على كيفو” لا تقيده ضوابط برتكولية ومراسمية.. قال موجهاً حديثه الحكيم لكل الناس وخص منهم “غازي أو كازي” عن ضرورة وأهمية وقف الحرب وإحلال السلام، قال كافي طيارة “انت يا دكتور غازي درست الثانوية والطب في الخرطوم وتخصصت في لندن.. ودفعت أسرتك من أجل تعليمك كل ما تملك أو نصف ما تملك وأصبحت الآن طبيباً يأتيك المريض يغالب سكرات الموت وأنت لا تعرف اسمه ولا شأن لك بقبيلته تتولى عنايته الطبية بإجراء عملية جراحية تنقذ حياته من الموت فينهض من سريره معافى.. أما أنا فقد حرمت من التعليم ولا أملك شهادة إلا شهادة السكن، وهناك من لا يملك شهادة سكن لأنهم من الرحل.. عندما تنشب الحرب “وتخرب الدار” فأنا الأمي أقتلك أنت الطبيب هل من خسارة أكبر من هذا!!”..

خطف الأمير كافي طيارة البدين الأنظار في تلك الليلة.. وإشارته لها أبعاد أخرى، حيث كان الأطباء والمهندسون والمتعلمون لا يستنكفون دعوة الترابي لهم للدفاع عن وطنهم فانخرطوا في كتائب الدفاع الشعبي.. وكانت الحكومة ورئيسها حتى ذلك الحين تصغى لنصح الناصحين.. ولا يغلق أبواب الحوار قادتها إيماناً بأن نصف رأيك عند أخيك.. والسلام ذلك الشعار الجميل لا تملك النفس السوية إلا السير في دروبه بوعي وإيمان عميق والحرب التي مزقت أحشاء الأسر والجماعات حصادها مر وثمارها حنظل بسبب القمع الثقافي والظلم السياسي والتحيزات في توزيع مشروعات التنمية.. وعندما نشبت حرب دارفور احتقنت شرايين المجتمع بالأحقاد والضغائن، لذلك يمثل هذا الشعار النبيل “حرية سلام وعدالة” قاعدة لاتفاق وتراضٍ بلا إقصاء مثلما انقلبت قوى الحرية والتغيير بعد ذلك.. وطرحت نفسها بهيئة لا ترتضيها لنفسها إلا قوى شريرة منكفئة عن ذاتها..

(3)

الشعارات النبيلة التي رفعتها الطليعة الشبابية للتغيير في السودان هزمتها شعارات أخرى مثل شعار “الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية”، يا له من شعار مفزع ومخيف يزرع في تراب أرضنا قيماً جديدة.. ويطوي صفحات من التاريخ الثقافي والاجتماعي والرصيد الأخلاقي والقيمي والسلوكي ويبرز الكراهية بديلاً للتسامح والعفو كقيمة إيمانية تعلو على ما عداها من اعتبارات.. وقد تكفل الخالق عز وجل بمكافأة من “عفا وأصلح” وتعهد رب العباد بتقديره لوحده مقابل العافين عند المقدرة.. والكاظمون الغيظ.. والدية ليست غاية في ذاتها.. ولا تمثل الدية تعويضاً عن فقد الأنفس ولا بديلاً للإنسان لابنه وبنته وأمه وأبيه، ولكن قبل الدية ينعقد مجلس الصلح والتصافي ويتبادل الطرفان المختصمان العفو وتذرف الدموع قبل أن يذهبا للمشاركة في تناول الطعام والشراب,.. ومن ثم “دفع الدية”، ولكن شعار “الدم قصادو الدم” المشحون بكراهية الآخر المخطئ في حقك فالسودان الذي اجتمعت له كما يقولون عبقرية الزمان والمكان ما أقعده عن النهوض إلا ضمور عبقرية إنسانه.. ومثل هذه الشعارات التي تدوس على القيم المتوارثة خاصة في غرب السودان.. وعندما استلهمت دولة جنوب أفريقيا مبدأ “الحقيقة والمصالحة” فإنها لجأت لإرث سكان غرب السودان في دارفور وكردفان، وهم يرددون في صباحاتهم وأماسيهم المثل القائل “موت ولد ولا خراب بلد”، ولذلك جاءت فكرة العدالة الانتقالية لمعالجة الصراعات الأكثر تعقيداً، والحقيقة والمصالحة والعدالة الانتقالية هي عين ما تحتاجه بلادنا للتعافي من الاحتقانات بسبب قتل المتظاهرين الثائرين من أجل حقوق عامة.. ولكن الخرطوم التي يردد شبابها “الدم قصادو الدم” لم تحزن ولم تخرج احتجاجاً على الدم الذي سال في وادي “سيلي” ولمن لا يعرفون وادي “سيلي” هو من ورد ذكره في المثل الشعبي “الترك جو في سيلي” وهو وادٍ بالقرب من مدينة الفاشر عندما بلغته القوات الغازية لسلطنة الفور ومملكة علي دينار رفعت إحدى النساء صوتها عالياً “سيدي السلطان ربنا ينصرك ترك جو في سيلي”، وحينها أدركت البصيرة الشعبية والرأي العام أن السلطنة إلى زوال!!

 لم تبك الخرطوم على مائة وسبعين قتيلاً من الضحايا في “طويلة” التي لا يعرف أهل الخرطوم عن إنسانها شيئاً ولكنهم “يمتعون أنفسهم بتمباك طويلة”، حيث المزارع الممتدة حتى منطقة ركرو في جبل مرة.. ولم تبك الخرطوم لثلثمائة روح أزهقت في 6 ساعات بمنطقة “ديج” بولاية وسط دارفور.. وأحداث “ديج” هي التي دفعت المحكمة الجنائية لفتح تحقيق عنها، فأين كان شباب الخرطوم عندما حدثت تلك المذابح الشيطانية.. وأين ضمير السودان النيلي.. والنخب التي تحدثنا اليوم عن الانتهاكات البشعة لحقوق المعتصمين أمام بوابة القيادة العامة، وفصيل من فصائل الحرية والتغيير يرتكب مجزرة في قرية اسمها كنانة حجير الدوم بمحلية أبوجبيهة ولاية جنوب كردفان “42” امرأة وشيخاً وشاباً وطفلاً يذبحون مثل الشياه في عيد الأضحى المبارك بعد أن حاصرت قوات التمرد القرية الصغيرة.. وسلبت أهلها الحرية ونعمة الحياة.. وبدم بارد قتلت في ساعة واحدة “42” نفساً من أهلنا “كنانة” وكنانة من قلب قريش وأكثر عروبة من أدعياء النقاء العرقي في الخرطوم!!

كيف يتم القصاص من قتلة “كنانة” حجير الدوم إذا كان الشعار الخالد “الدم قصادو الدم وما بنقبل الدية” هل الدم في الخرطوم أغلى من الدم في طويلة وكورما وكنانة حجير الدوم.. وأبوكرشولا والفيض أم عبد الله؟؟ لماذا جلس أهالي محلية شطايا وتعافى الناس وشهد الرجال على أنفسهم بقتل إخوانهم.. عانق القاتل والد المقتول.. وعفا الجميع وأصلحوا وانتظروا الأجر من رب العباد.. ولكن شعارات قوى الحرية والتغيير إذا كان أولها رحمة ومتفق عليها فإن آخرها عذاب يغلق أبواب التصافي ويؤسس لمرحلة جديدة في تاريخ الوطن.. لقد رفعنا صوتنا في سنوات البشير رافضين استمرار الحرب في المنطقتين ودعاة لوقف نزيف الدم، وكان ولاؤنا للحقيقة وحدها قبل الولاء لأي تنظيم سياسي ننتمي إليه أو كيان يحتوينا، لأن الاتكاء على فقه الذرائع لتبرير الأخطاء هو ما يقعد ببلادنا من النهوض وأحزابنا عن التطور والتمدد وبقدر إشراق شعار “حرية سلام وعدالة”، فإن الدم قصادو الدم شعار أشد بؤساً من حالة الخليفة المأمون في أخريات أيامه عندما فقد شهية الطعام والرغبة في الكلام.. ولم يجد غير خؤولته من الترك يقفون بجانبه.. فهل يمثل شعار الدم قصادو الدم مجرد غضبة ثورية لمقتل الشباب الغر في ميادين التظاهرات وليس بديلاً عن موروث التعافي والتصافي في التجربة السودانية؟؟

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى