عبد الحفيظ مريود يكتب.. تشكيل المشكّل

من الخطأ تركُ تقديرات وقرارات الحرب للعسكريين، وحدهم. قال ونستون تشرتشل، العجوز البريطاني الشهير. ثمّة خطورةٌ كبيرة في ترك التقديرات والقرارات المَصيريّة لمنْ يسمُّون أنفسَهم “أهل الاختصاص”. لا سيّما وأنَّ الآثار المترتّبة على تلك القرارات والتقديرات تقع على مَنْ هم ليسوا بأهل اختصاص. فهل يُمكنُ قلبُ الآية، وتعديل عبارة تشرتشل؟ بحيث يصبحُ الخطأ، كلُّ الخطأ في ترك أمور السياسة للمدنيين وحدهم، بما أنَّ آثارها تطال العسكريين؟

ينفتحُ العالمُ مدنيّاً. ولك خدعةٌ يصدّقُها العوام. فالولاياتُ المتّحدة الأمريكيّة، تُهيمنُ وتجعلُ كلمتَها سيفاً ماضياً بسبب قدراتها العسكريّة، وليس العكس. حتّى حين تُعلي من قيمة الفرد الأمريكي على مستوى أبناء آدم وحوّاء، فهي إنّما تفعل ذلك لأنَّ هذا الفرد مَحميٌّ بالأسطول السادس، السّابع، المائة، بمعنى أنّها تُعلِّي من قيمة مُواطنها لأنّها قادرة عسكريّاً على الدّفاع عنه، وليس مدنيّاً. وذلك ما يجعلُ الهَوس بترتيب جيوش الدُّول انطلاقاً من قُوة جيوشها. تقرّر الولاياتُ المتّحدة في كلّ شأنٍ، داخليّ أو عالميّ، انطلاقاً من تقارير المخابرات، والتقديرات العسكريّة. وهو ما يجعلُ دولةً مثلَ لبنان محصّنة ضدَّ التغوّل والإملاءات، فقط بسبب ميزان القوى العسكريّة الذي يحدثُ فيه الفارقُ، فصيلٌ واحدٌ في نسيجها، هو حزبُ الله.

في المشهد السُّوداني ما بعد ثورة ديسمبر، وسقوط الإنقاذ، يبدو أنَّ ميزان القوى يشيرُ إلى غلبة العسكريين في صناعة الأحداث والتحوّلات الكبرى. والمجتمع الدّولي والإقليمي يعرفُ ذلك جيّداً. سيكون على الجميع أنْ يقطع مسافةً في طريق الغوغاء، إرضاءً لهم، وتمهيداً للمراحل الفاصلة التي لن يجدَ الحالمون مفرّاً من القبول بها. تقتضي السياسة الإقليميّة والدوليّة الحفاظ على السّودان، بمنأىً عن الفوضى. لأنَّ الفوضى ستطالُ وتؤثّر على دول في المحيطين العربي والأفريقي، فالسُّودان ليس بعيد التأثير مثل ليبيا. يجبُ مُجاراةَ الهتّيفة الحالمين، ردحاً من الزّمن، ريثما تتفاقمُ الأزمات وينشغلون بها. وفي القراءات المخابراتيّة، الكتلة الصّلدة المتماسكة، والقادرة على اتّخاذ القرار وتنفيذه هي العسكر، وليس قوى إعلان الحريّة والتغيير المتشاكسة، الهشّة والقابلة للانقسام إلى ما لا نهاية. كلُّ رأسمالها استخدام الشّارع، و”الشوارع لا تخون”. على أنَّ التعويل على الشارع – في عالم الاستراتيجيا والمخابرات – ضربٌ من الوهم. فليس هناك أسهل من خداع الشّارع. أولئك الذين قال عنهم الإمام علي بن أبي طالب (ع): “همجٌ رِعَاعٌ أتباعُ كلّ ناعق”.

سيكونُ هناك عملٌ ضخمٌ، يتوجّب على أحدٍ القيامُ به، كما يقولُ الأمريكان. يجبُ أنْ يتمَّ سلامٌ في جوبا، بمُواصفات محدّدة، ليأتي بأشخاصٍ من الوزن الثقيل. على مستوى فهم مجريات السياسة الدّولية، وليس الحالمين من تجمّع المهنيين، أصحاب الكاروهات والابتسامات المفعمة بالأمل. في الأثناء يجري إدخال حزبين أو ثلاثة في جوقة الرّاقصين مع العسكر. الزّياراتُ المُعلنة والسّريّة إلى الإمارات والقاهرة، ليست من أجل إدخال بطاريات هواتفٍ من غير جمارك. بل من أجل استيعاب السيناريوهات والعمل بـ”تناغمٍ تامّ” على تنفيذها. فالذي يتابعُ لغطَ لقاء الفريق أول عبد الفتّاح البرهان بنتنياهو في كمبالا، يعرفُ أنَّ هناك أكثر من لسانٍ بين العسكر والمدنيين. بدا كما لو أنَّ رئيس الوزراء عبد الله حمدوك بعيدٌ عن الملف، ولا علم له. في مثل هذه الأوضاع، غالباً يضيعُ النّاطق الرّسمي المثقّفُ الوديعُ، والمبدئي، فيصل محمّد صالح. وذلك ببساطة لأنَّ عليه أنْ يقول أكثر مما يعرف.

وليس اعتباطاً أنْ يخرجَ منّي أركو منّاوي متحدّثاً عن مصالحة تشملُ الإسلاميين، والمؤتمر الوطني تحديداً. تلك ليست المرّة الأولى التي ينثر فيها مناوي حديثه ذاك. أول من أمس. قاله ياسر عرمان، بعد سقوط الإنقاذ مباشرةً. كرّره الشّفيع خضر. بلغةٍ مغايرة. ثمّة روحٌ تسوويّة تسودُ الخطاب السّياسي في المرحلة. ذاك ليس حديث أفراد ولا تمنيّات. هل كلُّ الإسلاميين سيئون؟ هل تنعدم وسطهم الوطنية والرّوح البنّاءة؟ هل توجدُ بينهم كفاءات وخبرات، غير أميرة الفاضل التي جدّد لها الاتّحادُ الأفريقي تفويضاً، والتي فاوضتْ حمدوك وزيراً للمالية في عهد الإنقاذ؟

إذا كانتِ الإجاباتُ بنعم، فإنَّ المرحلة المقبلة من السياسة في السّودان ستمضي بعيداً عن أحلام “صانعي الثورة”. لن يخرجَ تقريرٌ للجنة نبيل أديب، إلّا وهو يتبنّى العدالة الانتقالية، ولن ينفضَّ سامر معسكرٍ في دارفور، إلّا وهو يبتسمُ في وجه قاتله. فهل نتركُ السياسة للمدنيين وحدهم؟.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى