عبد الحفيظ مريود يكتب :  غباء الحاضنة

 

حين تسألُ شخصاً سودانيّاً:- “مَنْ هو المصريُّ؟”، ستكون إجابتُه – قطعاً.

–هو الحلبيُّ المستهبل، الذي ينتظر فرصةً سانحة، ليغشّك. ثمّة صورة نمطية للمصريّ. ومع ذلك، فإنَّ الجميع يبغض مصر، جهراً، ويعشقها سرّاً.

مثل امرأةٍ أوقعكَ الله في حبّها، ولكنّها – بكلّ المقاييس – ليستْ من تريد. يوقعك الأمر في التناقض بين الهوى والعقل، القلب والإرادة. وذلك لأنَّ أيّ أحد فتح عينيه على السينما، المسلسلات، الموضة، الغناء، الموسيقى، القراءة، الشّعر، التحضُّر والتقدُّم، وكلَّ شئ، فإنّه إنّما يفتحها على مصر. الأحزاب والجمعيّات وكل شئ جاءنا من مصر. نهض الحزبان

الكبيران (الأمة والاتحادي) على خلافٍ بسيط، سببُه مصر. الاتحاد معها، أم السُّودان للسُّودانيين (الافتراق عنها)؟ وجاءتنا الشيوعيّة من مصر، وحركة الإخوان المسلمين أيضاً.

المعلومات التي لا تغيبُ عن أيّ سوداني، أيضاً، أنّ أوّل رئيس مصري، يحكم مصر كان جمال عبد النّاصر، في أعقاب انقلابه على النّظام الباشوي، في يوليو أوائل الخمسينيات. لكنْ لا تجدُ مصريّاً واحداً يجعل من محمّد علي باشا، الألباني، ومُؤسّس مصر الحديثة، أجنبيّاً. ولن تجدَ مصريّاً يتعامل مع النّظام الباشوي، حتى عشيةَ انقضاض عبد النّاصر عليه، على

أنّه نظام حكم أجنبي، مستعمِرٌ، “لا يمثّلني”. بل العكس تماماً، يجعلُ المصريون تاريخهم كلَّه تأريخاً واحداً متّصلاً، منذ الفراعين الأوائل.

يفخرون بكلّ شئ، مثلما يفعلون مع الإسكندرية التي لم يضع أحدُ أجدادهم طوبةً واحدةً فيها. مثلما يفخرون بالأسرة 25 من الفراعنة السُّود، ويدرّسونهم على أنّهم حكّام مصر العظام، وجزء من ركائز حضارتها، وهم يعلمون بأنّ الأسرة 25 جميعهم مدفونون في “الكُرُوْ”، عند الشايقيّة من لدن بعانخي، حتى تانوت أماني، الذي عاد بالحكم إلى نَبتَة.

ذلك هو سرُّ بناء الذّات الوطنية المصريّة. يمكن قراءة السفير جمال محمّد أحمد، في “جذور القومية المصرية”، والذي لم يعد يتذكّره إلاّ الثقلاء أمثالنا، وبعض أهالي وادي حلفا، الذين خلّدوه بمكتبةٍ تحمل اسمه. يعالج الإيطاليون آثار الحقبة النابليونيّة ضمن تأريخهم، وضمن تراثهم الفريد.

مع أنّه جاءهم غازياً. ونكل بهم. لكنّنا – حين تُسقِطُ ثورةٌ شعبيّة

نظامَ حكمٍ وطني – نسارع إلى محوِ آثاره. كما يفعل العسكريّون حين ينفّذون انقلاباً ناجحاً. لا نريد لشئ من آثار خصومنا السياسيين أن يبقى جزءاً من تأريخنا. نكنس آثار عبود، نكنس آثار ثورة أكتوبر، نكنس آثار الديمقراطية، نكنس آثار مايو، نكنس آثار سوار الذهب، نكنس آثار الصادق المهدي، نكنس آثار الإنقاذ. هل تكمنُ العلّة في قُصور النظر الكوني؟ مثلما يفعلُ السلفيون والتكفيريون؟ لو أراد الله محوَ جميع الكافرين، الملحدين، عبدة الأوثان، في لمحة بصر، لفعل – سبحانه. لكنّه يريدهم ضمنَ خلقه، ضمن نسيج كونه. ثمّة تكليف محدد للمؤمنين به، تجاههم، يتوجّب ألاّ يتجاوزوه.

كنتُ أناقشُ بعض الشباب، لو أنّك مريخابي، حتّى الموت – واستغرب لرجل عاقلٍ بالغ مكلّف أنْ يكون مريخابيّاً – ولعب الهلالُ ضد الأشانتي، ولقي هزيمةً نكراء، فلنْ يعاملك الآخرون، غير السودانيين، على أنّك مريخابي. فذاك فريقٌ سوداني لقي هزيمة نكراء، ينبغي أن تجرحَكَ هزيمتُه، حتى ولو كنتَ تشجّع فريق الأمل عطبرة – لا سمحَ الله.

ضمن هذا المنظور، نصنعُ السودان المستقبلي. من لدن أزهري، حتى حمدوك.

فذاك تراثنا السياسي والوطني. تأريخنا جميعاً. لكن الحاضنة السياسية للحكومة الحالية، من الغباء بحيث أنّها لا تعدُّ السّلام الموقّع في جوبا، إنجازاً لها. لأن من جاء به مجلسُ السيادة، ومجلس السيادة “يتحكّم فيه العسكر”. و”ما تدّي قفاك للعسكر”… ثمّة صبيانية قاتلة حين تفرّق في مجلس السيادة بين المدنيين والعسكريين. ما خرج به محمّد الفكي سليمان، أمس الأول، لتوضيح ملابسات الوضع على الحدود الشرقية، والجارة إثيوبيا، ينبغي أنْ تُرفع له القبعات. ليست مسألة السيادة على الفشقة أو حلايب، موضوع خلاف بين العسكريين والمدنيين، ولا ينبغي أنْ تكون موضوع خلاف بين أيّ سودانييْن اثنين. فهل تنفكّ الحاضنة السياسية للحكومة الانتقالية من الغباء الصبياني المقيت؟.

 

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى