فضل الله رابح يكتب.. حكايات من حلتنا.. الزمن علمنا حاجات (2)

مع اندماجنا في الحياة العامة سيما المدنية لكننا نذكر أن بيئة صبانا بكردفان فيها قصص وحكاوي مدهشة متعمقة في دواخلنا والشعور ينتابنا كل مرة بضرورة التعبير عنها وذكر شخوصها وأمكنتها حتى يستمتع متلقي الرسالة بمهارة إنسان الريف في التعامل مع المواقف والأحداث المضحكة والمبكية وهو بمقدوره قول كل شيء دون أن يخسر، ولذلك نخطئ حين نعتقد أن الحديث المرتب بمعرفة وثقافة عالية وتعلم إجادة اللغات الأجنبية هي الوسيلة الوحيدة التي تضمن لك التواصل مع الآخرين بطريقة أفضل وتجعلك مساهماً في المجتمع بكفاءة..
إنسان الريف السوداني له لغته الخاصة في التواصل بعضها مباشر وآخر غير مباشر، بعضها أدب وشعر وبعضها حكاوي وأحاجي، وبعضها مقاطع صوتية وإشارات رمزية تفهم حسب سياق الموقف والتموضع الزماني والمكاني، وأحياناً توصل الرسالة بذات مهارة وجودة اللغة المنطوقة التي هي نفسها عبارة عن أنماط صوتية ونبرات إيحائية..
عذراً عزيزي القارئ للتطويل، لكنه مدخل مهم لنعود وصلاً للحلقة الأولى في رحلة ذكرياتي القروية في كوكب كردفان، وفي اليوم الثاني لحادثة خسار غنمي لمزرعة (ود الحاج)، والعادة جرت أن قوانين راعي مواشي القرية لا تتحمل مسؤولية معتقدات الأسرة الخاصة بها فهو يجبرنا على الالتزام بوائحه وقوانينه الخاصة بتسليمه الماعز في موقع وزمان محددين دون غيرها حتى يضمن استمرار رحلة الرعي بدون مسببات تحدث أضراراً دون إرادته وإلا ستتحمل الأسرة نتيجة تركه (بهايمك) هوامل في العراء تفعل بمزارع الغير، وعليك أن تتحمل الأعباء المادية ولا تلوم إلا نفسك لأنك تجاهلت عقاقير الراعي العرفية والوقائية باحترام الزمن والترتيب المسبق.. وإنني أهيم بتسليم غنمي للراعي (حامد جبريل) في اليوم الثاني، حيث صحيت بدري وجدته مع أكثر من (15) من أقرانه الرعاة يلعبون في الساعات الأولى من الصباح وكان أبرز أصحابه النور ضو البيت وآخرون بخرت ذاكرتي أسماءهم لكن بعض شخوصهم حاضرة.. كانوا يلعبون في وضع هادئ ومواشيهم ترتع إلى جوارهم والدنيا كانت خريفاً ماتعاً وراتع الحشائش والرهود والحفائر مليانة مياه ومناظر الخضرة وأشجار التبلدي تجمل دنيا الحياة كلها.. كانوا يلعبون وهم يرسلون نغمات فرح وسعادة بتلك المناظر الخلابة والأجواء الخريفية.. كانت هناك شجرة (حميض) معمرة في طرف زرع عمتي (قريشة)، كان الرعاة يمارسون بها لعبة المرجيحة بأحد فروع تلك الشجرة، حيث يتراص الجميع على فرع الشجرة ويحركونه من علٍ بلزمة ثابتة حتى صار تحت الفرع حفرة عميقة من آثار تردد اللاعبين صعوداً وهبوطاً.. وفي الأثناء حضر أحد الرعاة ويسمى إبراهيم محمد إبراهيم رابح الملقب بـ (هلول) وقد صاح فيهم متوتراً كان يخرج الحديث بعنف وأنا بحكم صغر سني أراقب تفاعلات المشهد كمستمع كان (هلول) مخنوقاً من عبرة الغضب محتجاً عليهم لأنهم غادروا حرم القرية قبل حضوره فهو بذلك يرى أنهم قد كسروا العرف الذي يسمح بأن ينتظر الجميع بعضهم البعض حتى تتكامل كل المواشي ثم تخرج في وقت وسرب واحد إلى الرعي في مسار سرحة واحد ومسار عودة واحد أيضاً وحتى مقيلهم في منتصف النهار واحد أشبه بنظام المرحال عند بعض القبائل في غرب السودان..
تعمد هلول افتعال مشكلة مع أحدهم حتى يفرغ غضبه فتحاشوه جميعاً ولم ينازله أحد جميعهم صعدوا على فرع الشجرة الذي أشبه بظهر الثور، وهلول كان يرسل نبرات غضب وتهديد يطريقته المعروفة لديهم ولم يجد من يتعارك معه في معركة بدون معترك، كما يرونها هم فأصر على تحريك الفرع بقوة حتى يسقط أحدهم أو يسقطوا جميعاً وتصبح سبباً لأزمة ظل هلول يسحب الفرع نحو الأرض وبصورة متكررة ثم يطلقه بعنف حتى (ينبل) الفرع عالياً ويتحرك بسرعة جنونية صعوداً وهبوطاً وكل واحد من الشباب كان يمسك بقوة حتى لا يسقط على الأرض ويصاب بأذى لحظتها إما أعاق نفسه أو وقع على يد هلول الغاضب، وسيفعل به الأفاعيل ضرباً أو خنقًا بقسوة وهو الذي يرى في نفسه الفتوة والقوة والآخرون دونه بينما هم كانوا يتحاشونه ولم يكونوا على استعداد لمواجهته ومصرون على تفويت الفرصة عليه.. غضب حامد جبريل منه بعد أن ظل يكرر حركته العنيفة بالفرع وانتهره بقوله: (يا هلول إنت الليلة شربت بقنية مع الصباح دا وقامت بيك ياخ سيب الفرع دا قرب ينشلخ وحنقع فيك والله حتتكسر حتة حتة).. هلول كان واثقاً من نفسه بأنه قد أهاب الجميع وأرهبهم وجرسهم، وهو يصارع الفرع بنفس مسترخٍ لم يكترث لمآلات ونتائج سقوط الفرع عليه إلا بالقدر الذي يرمي له الجماعة ويقع فيهم ضرباً بعصاه الغليظة.. لم يكمل حامد جبريل تحذيراته لهلول وتنبيهاته له حتى سقط الفرع بعد انفصال مدوٍّ من الشجرة الضخمة فأجهز على هلول بعد أن سقط الجميع عن بكرة أبيهم عليه، وبات هو مكوماً تحت الفرع ضج المكان وتكاثفت دخاخين وغبار حطام الفرع على الأرض.. لم يفكر أحد منهم في إنقاذه ورفع الفرع منه بل هربوا منه في اتجاه الغرب وقتها هلول أرسل صرخات سمعها أهل القرية دون أن يفسروها ولم يستطع أحد قراءة صوت الشخص الصارخ وتحديد هويته.. ولإنني لم أكن جزءاً منهم وكنت مراقباً لكل التفاصيل اختصرت المسافة والحديث بفركة رجل وفلتات لسان تكشف اهتمامي بالموقف إلى القرية.. (جرية) واحدة لم أتوقف إلا أمام منزل أسرة هلول وأول من قابلتني هي والدته (دقاقة) وبدون مقدمات وتهيئة أبلغتها بأن (الرواعية) كتلوا ولدك فأرسلت (دقاقة) صرخة استنفرت بها كل القرية وحملت نصف ثوبها ونصفه الآخر مسحوباً على الأرض وهي راكضة وتبكي وأنا خلفها جارياً.. دقاقة امرأة تجيد مهارة بكاء الحزن وتشكير الغائب.. أخذتني معها جرياً لإعلامها بمكان مقتل ابنها ونحن راكضون والقرية عن بكرة أبيها راكضة خلفنا حتى وصلنا قوز زرع (عمتي قريشة)، فوجدنا هلول تمكن من الخروج من تحت ركام الفرع وقد تكسرت أرجله وعندما رأى والدته هاج باكياً وهو يصرخ بعنف هستيري وأمه بادلته النواح ودخلت في حالة عويل وموجة نواح بات محور حديث الناس في ذلك الزمان..( دقاقة) حملت (هلول) على ظهرها (حبقته كالطفل) وأعصابها بايظة وهو قد رمى برأسه على ظهرها كأنه ميت ورجليه طوااااال، وهي تتحرك قريبة من الأرض.. أرجل هلول كانت تتحرك بخفة ولين كانها (ترجرجت بالكامل).. لم تتمالك والدته قدرتها لتقطع به المسافة بين موقع الحادث وإنزاله في بيتها فأنزلته اضطرارياً براكوبة بصير القرية (ود حامد) رغم أن ابن كريمته (حامد جبريل) كان ضمن المتهمين لكن لا خيار أمام دقاقة إلا ذلك الخيار، حيث جاء ود حامد بخطوات متكاسلة وهو مطمئن على الرغم من رقدة هلول المخيفة على الأرض ونواح والدته بدون وعي وتركيز.. ود حامد بدأ وهو يضع الجميع في سياق آمن مستخفاً بهرج دقاقة الذي سرق طمأنينة القرية وصراخ هلول الذي كأنه أجهز عليه شرع في تجهيز الجبرية المصنوعة من خشب العشر يعمل ود حامد بهمة في تسوية عيدان الجبيرة بواسطة سكينه الطويلة الملساء.. وفي قمة هذا الهلع هرب الرعاة واختفوا بمنزل عيال ضو البيت في طرف القرية الغربي وهم يرسلون المناديب لاستطلاع الواقع ومعرفة عما كان هلول قد مات أم مازال حياً.. اختفوا داخل قطية طرفية وهم يستمعون إلى روايات المراسيل بإنصات دون ثرثرة والعرق يتصبب منهم وهم متهيئون بذهنية ماكرة لوضع الأجوبة للأسئلة الافتراضية والمحاسبة على الجرم رغم أن هلول هو الجاني عليهم، لكنه تحول الى ضحية وضع كل واحد منهم نفسه موضع الدفاع عن نفسه ودفع التهمة عنها.. ذلك الموقف (الهلولي) بامتياز وضع القرية كلها في وضع الطيران في ذلك اليوم وسيطر على منابر النقاش والجدال والتحليل وتقديم الحجج التي أكثرها ضده وأقلها معه.. والده (محمد إبراهيم رابح) فضل السكوت كوسيلة للتعامل مع الموقف، لأنه يدرك أن ابنه (هلول) (مخطخط) أي (كثير الأخطاء) ولديه سوابق في افتعال المعارك، وهو قليل التوبة من الأخطاء.. إن صمت والد هلول وعدم تضامنه مع نواح زوجته وتجاهل صراخ ابنه بعث رسالة قوية للجميع حسمت الجدال والنقاش وتقديم الدفوعات.. إن صمت محمد إبراهيم رابح وعدم تضامنه مع الموقف لصالح أسرته قطع الطريق أمام توسع المشكلة وحال دون تحويلها الى إشكال أسري أو قبلي وأعطى زملاء هلول المختفين فرصة للظهور ولأسرهم فرصة أكبر لتبني مواقف وحلول أقوى مما كان يتوقعها الجميع.. استحسن الكل على محمد إبراهيم اختيار لغة الصمت على لغة الكلام وإحسان السكوت وهو يتابع مشهد الجميع يتناولون ويتناقشون في قضية تخصه وأسرته فصمته كان وقارًا فضح حجة بعض ممن حاولوا الخوض في القضية بقلة معرفة أحياناً وبتهور أحياناً أخرى وآخرون كانوا ينوون الاصطياد في المياه العكرة.. إن صمت محمد ابراهيم وهو صاحب سلطة في تلك القضية كان سبباً مباشرًا في حسمها لصالح المنطق والحق والموضوعية، وقد صححا كثير من المفاهيم والثرثرات التي لم تراع خصوصية المجتمع.. ومحمد إبراهيم في تلك القضية لم يتحول لمجرد تمثال صامت، لكنه كان يستمع بمهارة ويرد على قدر الحاجة وأثبت للجميع حين يصمت عن الرد على بعض الأسئلة أنه بصمته يقول كل شيء لصالح الحقيقة المجردة ..
نواصل إن شاء الله تعالى..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى