منى أبوزيد تكتب: الأشياء السيئة والأشخاص الطيبين..!

“ليس التعلم أن تحفظ الحقائق عن ظهر قلب بل أن تعرف ماذا تفعل بها”.. روجر فريتس..!

في مطلع الثمانينيات، أصدر الحاخام هارولد كوشنر كتاباً – ذاع صيته – بعنوان “لماذا تحدث الأشياء السيئة للأشخاص الطيبين”، استند مضمونه على مآلات تجربة شخصية عاشها مؤلفه الذي توفي ابنه بمرض وراثي نادر..!

الإجابة على السؤال الذي يثيره الكتاب حاضرة – بطبيعة الحال – في القرآن الكريم “ولنبلونكم بشيء من الخوف والجوع ونقص من الأموال والأنفس والثمرات وبشر الصابرين”، وفي السنة النبوية “إذا أحب الله قوماً ابتلاهم فمن صبر فله الصبر ومن جزع فله الجزع”، يعني – ببساطة – لم يفعل الأخ هارولد في كتابه ذاك أكثر من ممارسة الدور التاريخي لبعض العلماء والمفكرين “إعادة اكتشاف مضامين آيات قرآنية نزلت قبل خلقهم بمئات السنين”..!

كل واحد منا – بطبيعة الحال – يرى في نفسه شخصاً طيباً، وهذا جُزءٌ من فلسفة الإنسان في تبرير أفعاله ومواقفه “وإن كانت شروراً مستطيرة”، لكن الشاهد من كتاب كوشنر هو تحفيز القاريء على التفكير الإيجابي عند مقارعة المصائب، بحيث تزداد قناعته – يوماً بعد يوم – بأن كل موقف صعب يمر في حياته هو امتحان أخلاقي على وجه ما..!

تَجُول مثل هذه الأفكار في أذهاننا من حين لآخر، ولكنها لا تتنزل على ساحات يقيننا كما ينبغي لها ولنا إلا عندما نتعثّر بموقف “ما” يمسك بحياتنا من كتفيها ويهزها هزاً ليمنحها بُعداً جديداً، ومثل ذلك – بالضبط – ما حدث معي عندما لقنني عابر سبيل فقير أعرج – لم يخاطب لساني لسانه يوماً – درساً لن أنساه ما حييت في صدق ذكر الله، وكثير شكره، وحسن عبادته..!

كنت – ذات يوم – في أسوأ أحوالي المعنوية، وكانت محاولات إبليس الدؤوبة لإيقاعي في فتنة سُوء الأدب مع الله بجحود النعم في أوج نجاحها، فكنت أسير في طريقي إلى إحدى “بقالات” الحي بوجهٍ منطفيء وعينين ذابلتين، وأنا أظن نفسي أكثر أهل الأرض شقاءً وبلاءً..!

وبينما كنت أسير – على حالي ذاك – مر بجواري رجل هزيل، أعور، أعرج، يجر ساقاً واحدة ويحرك يداً واحدة وينظر إلى الطريق بعين واحدة، نصفه حي ونصفه الآخر ميت، ومع ذلك كان يستغفر الله كثيراً وهو يبتسم..!

ليس ذلك فحسب، بعد زيارة تالية إلى ذات “البقالة” علمتُ بأنه قريب لصاحبها، قادم من إحدى مناطق السودان النائية، وكلما صادفته في غدوي ورواحي رأيته يتوضأ أو يصلي أو يقرأ بعض آيات القرآن الكريم عن ظهر قلب، وما سمعته يتحدّث قط إلا وهو يذكر الله ويثني عليه، وإن ضحك لأي سبب يستغفر الله..!

فكان بحاله تلك وهو ابن السبيل الفقير المبتلى بإعاقة الجسد وغربة المكان، أكثر رضاءً وقناعةً وأشد ثناءً على خالقه وأعظم أدباً مع ربه من عاصين كُثُر، أجسامهم مُعافاة وبطونهم وجيوبهم ملأى، وقلوبهم خواء..!

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى