بستان الحلنقي

(أ)

كان الشاعر الراحل إسماعيل حسن من أقرب الشعراء إلى نفسي، أذكر أنه حين استمع أول مرة إلى أغنيتي «جرّبت هواهم» للفنان محمد وردي قال لي: إن كلمات هذه الأغنية تحتاج إلى عُمق أكثر في بعض المقاطع.. إلا أنّك تحايلت عليّ بالتدفق العفوي في الإيقاع المُوسيقي للأحرف المنغّمة، مما جعلني أشعر أنها تحمل بعضاً من ملامحي الجميلة عدا هذا الأنف الضخم.. وأشار إلى أنفه وهو يضحك عالياً.

(ب)

كان هذا المبدع شامخاً كأنه مسكنه السحاب، بسيطاً كظلال أشجار الأراك.. كان أول من أعلن أنه لن يقبل هواناً من امرأة أحبهاً فكتب أغنية «بعد إيه جيت تصالحني» مما دفع عدداً من شعراء الحقيبة إلى الهجوم عليه, حيث أنهم لم يتركوه يستريح ساعة واحدة.. باعتبار أنه أعلن عصياناً على الشعر الطويل والخصر النحيل وليل يا ليل.. إلا أن الشاعر الكبير واصل عصيانه فكتب أغنية «غلطة كانت غرامي ليك» ثم أعقبها بأغنية «يا ما بكره تندم».. لقد تعلم شعراء تلك المرحلة من «أبو السباع» أن يموت الإنسان واقفاً خير له ألف مرةً من أن يموت راكعاً.

(ت)

* ظل الموسيقار «بليغ حمدي» يردد في كثير من مقابلاته الفنية أنه يعتبر الموسيقار «محمد عبد الوهاب» أكبر مقتبس للألحان الموسيقية في مصر.. وقال إنه يتميز بقدرة هائلة على الصيد السهل للجملة الموسيقية التي تعجبه الصادرة عن أي لحن غربي.. ثم يعمل على مزجها بحسه الشرقي ثم يخرج بها للناس لحناً يتفجّر طرباً.. وبما أن معظم الموسيقيين في مصر كانوا يعلمون عن عداء خفي يكنّه «بليغ» للموسيقار الكبير, فإنّ أحداً منهم لم يصدقه.. بل كانوا يتندّرون عليه باعتبار أنه يسعى لبيع الطماطم في سوق باريس المعبأ بالثريات.

(ث)

* هاتفت والدة وزير سابق أحد الصحفيين المعارضين لسياسة ابنها.. هاتفته قائلة: لقد لاحظت أنك لا تنشر إلا صوراً عليها تكشيرة حادة لوجه ابني الوزير.. ترى ما هو الذنب الذي جناه حتى تتعامل معه بهذه الطريقة التي لا تليق بمنصبه المخملي؟.. رد عليها الأستاذ الصحفي قائلاً: يا سيدتي أرجو أن تنصحي ابنك الوزير أن يبتسم أمام الكاميرا حتى يتسنى لنا أن نتحصّل له على وجهٍ باسمٍ.. وأضاف: هل تعلمين يا سيدتي أن ابنك الوزير وعد ناخبيه من أبناء قريته أن يبني لهم المدارس والمستشفيات ويعمل على تلبية رغباتهم للحصول على حياة كريمة.. إلا أن آمال المواطنين تحوَّلت كلها إلا «كرش» ممتدة محشوة بألوان من الدجاج المُحمّر والمنام على حضن المكيفات الباردة.

(ج)

استمرت غربة قيصر الأغنية السودانية الراحل «حسين بازرعة» أكثر من اربعين عاماً دون أن تتمكن امواجها السوداء على كسر كبريائه أو الانتصار عليه, بل ظل منتصراً عليها بصبره طوال وجوده بين أنيابها على مدى أعوام، ظل هذا القيصر يضيئ مصابيحه بيده المرهفة على أضواء شحيحة من الحزن ثم يبدأ الكتابة ويطل علينا بشعر أشبه بعبق الصندل على ضفيرة عروس حمل هذا القيصر صخرة الاغتراب على ظهره دون ان تصدر عنه آه وظل يحملها صابراً إلى ان عاد الينا وقد وهن عظمه وكف بصره، عاد إلينا بحثاً عن اتكاء صغيرة بين أحضان بلد طالما أحبها وهام بأهلها ونحن حرام علينا نرى قيصرنا يتلاشى امام اعيننا دون ان نتكرّم عليه بمجرد الزيارة للاطمئنان على صحته وذلك أضعف الإيمان.

(ح)

*كان الرئيس الراحل «جمال عبد الناصر» يتعمد الوصول إلى المسرح الذي تغني على خشبته عبقرية الغناء العربي «أم كلثوم» قبل وصولها اليه حتى يكون في مقدمة المستقبلين لها, حيث انه كان يضعها على عينيه منذ أن كان مجرد ملازم صغير في الجيش المصري، ويقال إن ضابطاً مصرياً تعرض لها بكلمة آذت مشاعرها فقام الرئيس الراحل باستدعائه قائلاً له ان الذي يجرح هذه الفنانة العظيمة يكون كمن أهان كل الشعب المصري في عزته وكرامته، ويروى أن «أم كلثوم» تبرعت بالكثير من مجوهراتها دعماً للمجهود الحربي أثناء انتكاسة حرب «67», كما أكد الكثيرون أن حزناً غامضاً استولى على مشاعرها بعد تلك الحرب المنكوبة ظل هذا الحزن ملازماً لأنفاسها إلى أن غابت كوكب الشرق فترمل الطرب الأصيل من بعدها صار مجرد ضربات على طبل نحاسي فارغ

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى