قرية في المدينة

*في سنوات الطفولة، تختزن الذاكرة الكثير من المواقف، بعضها مفرح وغيرها محزن، ولكن تبقى جدران الذاكرة محتفظة بها، وإن كانت بمرارة العلقم.

*وأذكر جيداً الأيام التي كانت تسبق شهر رمضان المبارك، حيث تفوح رائحة “الحلومر” من كل المنازل، وتجعلنا تلك الرائحة نشتهي أن “نمضغ” الآبري الأحمر – كما يُطلَق عليه – قليلاً، ونكثر من الآبري الأبيض الذي كان له مذاق خاص لدينا.

*كنا نتابع إجراءات صناعة “الحلومر”، منذ أن يتم تزريعه إلى أن يطحن ثم تضاف إليه المحسنات التي تجعل منه ذا مذاق مختلف عن بقية المشروبات، إلى أن تجتمع النسوة في أحد المنازل لصناعة هذا المشروب المعتق، ومع هذا البرنامج الكثير من الطقوس تبدأ من إعداد الطعام إلى شرب القهوة.

*كل هذه الطقوس، كانت تحدث في قلب الخرطوم، حينما كانت الخرطوم بعافيتها وطيبة أهلها ونقاء قلوبهم، لم يكن حينها، هناك فوارق بين القبائل ولا أحد منا يعرف إلى أي بلد ينتمي جاره، فجميعنا من السودان منا من أتي من غربه وآخر من شرقه، وغيرنا من الوسط والشمال والجنوب.

 كانت القوز والرميلة وغيرها من المناطق القديمة في الخرطوم يعيش أهلها في تواد وتراحُم ولا زالت هذه المناطق تحتفظ ببعض من طقوسها رغم تلاشي بعضها.

*وأذكر جيداً، ونحن في الجامعة، كنت ومعي بعض الأصدقاء نطبق برنامجاً للإفطار الجماعي في منازلنا وحينما كان الإفطار في القوز، قال لي صديقنا العزيز وابن دفعتنا أزهري حسن أحمد، وهو من أبناء نهر النيل ولكنه تربي وعاش في عروس الرمال “الأبيض”، قال لي هذا القوز قرية في قلب المدينة، ولا زال هذا الحي كذلك رغم تقلبات الأزمان والظروف.

*ربما هناك الكثير من أحياء الخرطوم، لازالت تحافظ على الإفطار الجماعي للجيران في الشارع العام، ولكن يتميز حيا القوز والرميلة بكثرة “البروش” التي يسد بعضها الشارع العام من أجل إفطار عابري الطريق.

*وعلى الرغم من ضغوط العمل الصحفي، التى قد تحرمنا من الإفطار مع الجيران والأهل معظم أيام هذا الشهر، إلا أننا نكون في قمة السعادة، حينما تحين لنا الفرصة لفعل ذلك، خاصة وأن الإفطار لا ينتهي بتناول الوجبة فقط، وإنما يتبعها تناول المكيفات من شاي وقهوة وونسة أعمامنا وآبائنا الذين لا زالوا يحافظون على بعض الإرث القديم.

*حسناً في كل عام، وعند هذا الشهر الفضيل، تجد شوارع الخرطوم مكتظة بالسيارات، وتزدحم الأسواق لشراء مستلزمات هذا الشهر الفضيل، وقد ينسى البعض أن هذا الشهر العظيم يأتي بخيره الوفير للجميع الفقراء منهم والأثرياء، وقد ينسى البعض أن هناك أسراً لا تعرف الفرح، إلا في هذا الشهر الذي يتساوى فيه الجميع في الصيام الذي يكون لجميع الجوارح.

*الكثير من الخيرين يظهرون أعمالهم في هذا الشهر بعضهم لا تعلم يساره ما تقدمه يمناه، وآخرون غير ذلك ولكن يبقى هذا الشهر للتراحم والتواد وفعل الخير للجميع.

*نسأل الله أن يعيد علينا هذا الشهر العظيم وبلادنا آمنة ومستقره وحالها أفضل مما هي عليه الآن.

*وتصوموا وتفطروا على خير

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى