سياسة المركزي لصادر الذهب

شد وجذب بين محتكر للشراء وبين منح المهمة لشركات خاصة

الخرطوم: مروة كمال

اتجه السودان منذ انفصال الجنوب في العام 2011م إلى الاعتماد على صادراته من الذهب سعيا منه لتعويض فاقد نفط الجنوب، وارتقع سقف أهمية الذهب عقب اكتشافه من طرف السكان في عدد من مناطق السودان المتفرقة، وهجرهم الزراعة واتجاههم نحو التعدين التقليدي، الذين حققوا إنتاجاً كبيرًا، ليصبح التحدي أمام الحكومة في الاستفادة من هذا الإنتاج وضمان دخول حصيلته خزينة الدولة، والتي فشلت حتى الآن في السيطرة عليه، وبات يهرب بكميات كبيرة  بسبب سياسات بنك السودان المركزي التي إتسمت بعدم الثبات.

سياسات المركزي

في مطلع يناير من العام الماضي، أعلن بنك السودان المركزي على لسان محافظه الأسبق الراحل حازم عبد القادر عن سياسة جديدة لشراء الذهب من المنتجين، وفقًا للأسعار التي تحددها بورصات الذهب العالمية، وقال إن البنك المركزي سيعمل على شراء الذهب من المنقبين الأهليين بأسعار مجزية، وأعلى من الأسعار التي يحصل عليها المنتج من التهريب، بيد أنه لم يمض شهر على هذه السياسة حتى أعلن في نوفمبر من ذات العام سياسة جديدة قضى بموجبها بحصر تجارة الذهب شراء وبيعاً وتصديراً عبر بنك السودان المركزي فقط، وأن المركزي سيشتري الذهب من مناطق الإنتاج ويقوم بتصديره، وأي جهة ترغب في الذهب عليها شراؤه مباشرة من البنك”، أملا منها في زيادة مشتريات البنك من الذهب الصادر ومن ثم زيادة حجم النقد الأجنبي لدى الدولة، مما سينعكس إيجاباً على سعر الصرف، فضلاً عن أن الحكومة ستحكم إغلاق كل المنافذ لمنع تهريب الذهب، وستفرض عقوبات صارمة على المهربين، وبرر المركزي رفضه دخول القطاع الخاص في شراء وتصدير الذهب إلى الخارج ، بحجة أن الذهب يعتبر كالنقد لا يحق لأي شركة الدخول في شرائه وتصديره إلى الخارج، إلا أن سياساته لم تثمر، وازداد من خلالها تهريب الذهب إلى الخارج، فالشاهد أن سياسات بنك السودان التي تقوم على احتكار شراء الذهب وفرض السعر الرسمي للدولار الأمريكي، جعل المنقبين الأهليين يلجأون إلى تهريبه لخارج البلاد، للاستفادة من سعر الدولار المرتفع في الأسواق الموازية.

 وفي خواتيم العام الماضي في الثالث من ديسمبر أعلن رئيس الوزراء وزير المالية السوداني في النظام السابق، معتز موسى بشكل مباشر الترخيص لشركات القطاع الخاص بتصدير الذهب كتحرير كامل للذهب، وشملت وقتها أبرز ملامح خطة تحرير صادرات الذهب التركيز على محاربة تهريبه ومنع تسريبه لدول الجوار وإدخال الفاقد منه عبر التهريب للخزينة العامة ودعم ميزان المدفوعات، تم تنفيذ القرار بفتح باب تصدير الذهب أمام أربع شركات، اثنتان منها تعملان في مجال الاستيراد والتصدير تم تأهيلهما لذلك الغرض.

وشهدت سياسات المركزي في صادر الذهب شداً وجذباً ما بين محتكر للشراء مرة وبين فك الاحتكار ومنح المهمة لشركات خاصة، الأمر الذي عزاه البعض وقتها إلى الفارق الكبير بين كميات الذهب التي يتم تسليمها لبنك السودان، وكميات الإنتاج الفعلية التي كانت أحد أسباب مراجعة سياسات الذهب، أملاً منها في الحد من تهريب الذهب، سيما أنه أهم الموارد التي من شأنها توفير النقد الأجنبي للبلاد، وتوقعت أن تجذب السياسات الجديدة جزءاً مقدراً من الكميات المنتجة.

تهريب ممنهج

ويرى اقتصاديون أن التهريب الحقيقي للذهب منظم وممنهج وتدعمه قوى نافذة مما يعظم تأثيره على الاقتصاد لجهة أن الكميات المهربة تكون بحجم كبير، وأن المهرب لا يكون شخصاً واحدًا وإنما شبكة تنفذ العملية بسهولة عبر نوافذ رسمية تحت مسميات مختلفة، مما يحتم ضرورة ضبط مطار الخرطوم، واتهموا الشركات المنتجة بتهريب الذهب الأمر الذي اعتبروه أهم الإشكاليات التي تستوجب ضبطها ورقابتها، واعتبروا بيع الذهب بسعره العالمي داخل البلاد من أحد الحلول المهمة لمحاربة التهريب حتى إذا وضعت تمويلاً للعجز فإن الذهب يغطي نفسه بنفسه، وذلك لأن إصدار العُملة في البداية كان على حسب قاعدة الذهب.

محاسبة قانونية

رئيس شعبة مصدري الذهب عبد المنعم الصديق، أشار لـ(الصيحة) الى سياسة بنك السودان المركزي السابقة احتكار الذهب على شركتين فقط، وأضاف أنه بالرغم من السماح للشعبة بشراء وتصدير الذهب، إلا أن الامتيازات التي تم منحها لهاتين الشركتين جعلت منهما غير قادرتين على المنافسة، وقال إن فقدان 80 طناً من إنتاج الذهب المقدر بحوالي 100 طن نتيجة لهذه السياسة الخرقاء التي منحت لهذه الشركات.

وكشف عن اجتماعهم بمحافظ البنك المركزي بشأن اللجنة التي تم تكوينها من قبل المجلس العسكري لتحديد سعر الذهب والتي قامت بكل أسف بتحديد تسعيرة لجرام الذهب على حسب مصلحتها، وقفزت بالسعر الى 2550 جنيهاً بدلاً من 1850 جنيهاً، مؤكدًا أن هذا الإجراء أدى إلى خفض قيمة الجنيه مما يؤدي الى انهيار الاقتصاد، لافتاً الى رفعهم مذكرة للمركزي، وتم بموجب اجتماعهم حل اللجان السابقة وتكوين لجنة جديدة لتسعير الذهب وفقاً للأسعار التي لا تضر بالاقتصاد، وشدد على ضرورة محاسبة الشركات التي قامت برفع أسعار الذهب وبيع كميات كبيرة من الذهب للمصفاة، وزاد”لابد من محاسبة هذه الشركات قانونياً وإرجاع الأموال الطائلة التي جنتها من رفع السعر دون وجه حق”.

 وكشف عن شروع الغرفة في فتح بلاغات في مواجهة اللجنة بنيابة الفساد، وطالب بتحرير كامل لشراء الذهب وخروج بنك السودان والشركات الحكومية والتعامل بشفافية تامة، مبيناً أن البنك المركزي عليه  فقط وضع السياسات والرقابة.

ظلت سياسة بنك السودان في شراء الذهب واحتكاره مصدراً للانتقادات من قبل خبراء اقتصاديات التعدين مؤكدين أنها سياسة غير صحيحة بنص القانون، فالبنك ليس بتاجر، ويرون أن الحل الأنجع لشراء الذهب إنشاء بورصة للمعادن التي تمكن من منح السعر العادل، ويتم التداول عبرها وفقاً للسعر العالمي، فضلاً عن أن التداول في الذهب يكون بالأموال الحقيقية من داخل الاقتصاد وليس من أموال يضخها بنك السودان المركزي، والتي تؤدي للتضخم، بل ذهبت غرفة مصدري الذهب لتحميل المركزي مسؤولية ارتفاع سعر الدولار مؤخراً بسبب سياسته في الشراء.

اعتماد سياسة فرعية

الخبير في اقتصاديات التعدين دكتور ياسر محمد العبيد قال لـ(الصيحة) إن سياسات بنك السودان المركزي في شراء الذهب تتسم تاريخياً بعدم الثبات، واعتبر عدم القدرة على اتخاذ القرار أحد مشكلات المركزي، مما أدى إلى عدم وجود ثقة بين البنك والمنتجين ما أحدث خللاً جعله أحد مداخل التهريب، مؤكداً أن بنك السودان المركزي غير قادر على تقييم سعر الذهب بالطريقة العلمية الدقيقة، مشددًا على أهمية وجود توافق وتوازن بين سعر الصرف وسعر العملات العالمية، فضلاً عن توازن بين سعر الذهب المحلي والسعر العالمي، وناشد المركزي أن لا يعتبر الذهب أي سلعة لجهة أن سعره يتغير بتغيرات الثانية، ويحتاج لمواكبة وسياسة واضحة تجاه سياسة بيع الذهب، التي قال إن المركزي يعتمد السياسة الفرعية التي لا تتماشى أحيانًا مع السياسة النقدية الكلية، وطالب بضرورة مراجعة سياسات بنك السودان المركزي لشراء الذهب عبر مختصين وخبراء بمواصفات خاصة.

ويمضي العبيد أن سياسة بنك السودان المركزي للذهب جزء من السياسة النقدية، وقال إن السياسة النقدية وسياسة الذهب لابد أن تتفق مع السياسة المالية للدولة، وفي حال ظهور خلل في سياسات بنك السودان للذهب، فذلك يبين مدى تعارضها مع السياسة المالية والنقدية للدولة، وهذا يعني أن سياسة الوكلاء حدث فيها خلل كبير مما جعل المركزي يستقبلها بالسياسة العامة عبر فتح الصادر لعدد من الشركات التي لديها قدرة لشراء الذهب، مبيناً أن تقييم هذه السياسة يحتاج لمعيار لقياسها وتحقيق المنتج في المواقع المختلفة لتحديد كمية الإنتاج والتهريب فضلاً عن دور تخزين الذهب الذي لم تحدده السياسة والتي ركزت على التسريب، لافتاً إلى أن الذهب تتم به معايرة العملات.

مجلس أعلى

فيما يجزم الخبير الاقتصادي، د. الفاتح عثمان بعدم وجود سياسة واضحة في التعامل مع الذهب فضلاً عن فقدان العمل المؤسسي في تصدير الذهب، داعياً الى وضع استراتيجية واضحة لتحقيق استقرار في الإنتاج والتعامل معه، وطالب بوقف تصدير الذهب وعمل بورصة عالمية خاصة بها محلياً لحل المشكلات، والغالبية من الذهب تقوم الدولة بشرائه عبر بنك السودان ليكون احتياطياً وربط الجنيه به مما يساعد في خفض نسبة التضخم، وفي قوة الجنيه خارجياً تساعد في الاتفاقيات، وناشد بتكوين مجلس أعلى للذهب أسوة ببقية السلع مثل القطن والصمغ العربي، مشيراً إلى أن الذهب سلعة إستراتيجية في ظل اهتمام الحكومة به باعتبار أنه تحول إلى الصادر الأول للبلاد عقب الأزمة التي حدثت في قضية البترول، والذي كان يعتمد عليه اعتماداً كلياً مما نتج عنه انتهاء الصادر وخرج السودان من السوق العالمي نتيجة لعدم الاهتمام بالصادر الزراعي والصناعي، وتوقع تكرار نفس الأزمة في ظل عدم وجود إستراتيجية واضحة للذهب مما خلق مشكلة كبيرة متمثلة في اضطراب شديد في التعامل، لافتاً إلى أن الاقتصاد في الأصل هو علم البدائل، وفي ظل عدم وجود نظرة اقتصادية واضحة وبديل أمثل مما يخلق تخبطاً وتعاملاً متعارضاً، وقال: للأسف إن الإجراءات الأمنية والقانونية هي السياسة الواضحة في التعامل مع الذهب لجهة أن السياسات الأمنية لوحدها لا تستطيع أن تقود الاقتصاد أو تصدير الذهب، مبيناً أن الأسعار المعلنة لشراء الذهب متذبذبة مما ساهم في تزايد عمليات التهريب للذهب فضلاً عن وجود مشاكلات في الدستور بمنح صلاحيات للولايات في التصدير وإصدار القوانين، مما يعني أن الدولة لا تعمل في منظومة موحدة وفق إستراتيجية قومية، ونوه إلى أن اللجان العليا في القطاعات المختلفة لديها حق سيادي باتخاذ قرارات مما يكون لها أثر على الوزارات الموجودة المختصة وعلى صلاحيتها الأمر الذي اعتبره بالإشكال الكبير من المفترض أن يكون للجهة المختصة الحق في اتخاذ القرارات وأن تكون مهمة اللجان خدمة الخط العام للدولة، مؤكداً أن الدولة حالياً في مرحلة تفتت في مفهوم الدولة تماماً في ظل وجود 17 ولاية تعمل بمفردها

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى