حاج علي .. أأنت أطول منها وأبقى..؟!

(أ)

 مع أنه أطهر وأغلى وأقيم عند الله وعندنا نحن المسلمين، إلا أن تعليق أحد السياح الأوروبيين كان رامزاً عندما صاح:

 (يا للعجب إن مسجد حاج علي في مدخل الواجهة البحرية لمدينة مومباي الهندية، يمثل النسخة الإسلامية من تمثال الحرية في نيويورك..!!)

 كلا المعلمين التاريخيين يقعان عند مدخلين بحريين لمدينتين عملاقتين وعاصمتين اقتصاديتين لدولتين كبريين مُهمّتين في العالم، وهما (أي المعلمين) محط أنظار الزوار والسواح من كل أنحاء الدنيا الفسيحة، ولعب المعلمان أدواراً عظيمة ولا تزال للمدينتين الشهيرتين.

مسجد حاج علي المعلم السياحي الأبرز في مومباي بالهند، بعمارته الإسلامية الباهرة ونقوشه وجدارياته الجميلة، بناه تاجر مسلم  قادم من مدينة (بخارى) في أوزباكستان الحالية بآسيا الوسطى، يدعى (حاج علي بير علي شاه البخاري)، ويطلق عليه أحياناً (حاج علي دارغا)،  ألقى به البحر وتجارته في القرن الخامس عشر الميلادي على الشاطئ الغربي للهند، وعاش وسط الهندوس والبوذيين والمجموعات السكانية المتحدّرة من جبال هندكوش وبقايا المغول والعرب، ولم يكن من أولياء الصالحين ولا من الدعاة، كان تاجراً موفور الرزق كوّن ثروة لا حدّ لها، ثم فجأة زهد في الدنيا وقربه صلاحه من حواف النعيم الدائم، ومضت به مسارعته في عمل الخيرات إلى مسار علوي نحو السماء، وحثه التسابُق إلى خدمة الناس إلى ارتياد سماء نقية بعيدة، فمن  دون تصنيف لدين أو عرق أو جنس، وزّع أمواله وتجارته وانقطع للعبادة والمناجاة والعرفان وذكر الله مُخبتاً مُتضرّعاً عند جزيرة غير مأهولة بمنطقة (أورلي)، يفصلها أكثر أيام السنة ماء البحر عن يابسة الجزر الثمان التي تتكون منها مدينة مومباي.

 بنى حاج علي مسجداً هناك، في العام 1413م، ثم تجمّع حوله الناس وخاصة المسلمين وغير المسلمين، ولما قبض الله روحه ونقله إلى جواره الكريم، أقام أهل مومباي ضريحاً له صار مزاراً لهم، وهم يعتقدون في بركة المرقد الراقد والمكان، يفِد إليه ويزوره الهندوس والبوذيون والسيخ  بأعداد تفوق أعداد المسلمين.

عند مدخل مدينة (مومباي)، من الساحل الغربي، وهي تطل وادعة مطمئنة على بحر العرب الذي يُلامس المحيط الهندي، والتاريخ يشهد هنا عن التواصُل عبر البحر بين شبه القارة الهندية، وجزيرة العرب وأهل عُمان وأفريقيا وساحلها الشرقي، قبل وصول المستعمر الإنجليزي الذي جعل من الهند دُرّة التاج البريطاني، يرتفع في شموخ مسجد حاج علي بلونه الأبيض الناصع الساطع، ومئذنته العالية سامقة إلى السماء لامعة كأنه ترتدي حُلةً من ضياء النجوم وبهاء الدعاء في مشهدٍ يجعل المسلم يشعر بقشعريرة تسري في جسده لعظمة هذا الدين ورجاله..

 (ب)

عند مدخل مدينة (نيويورك) البحري، يقف تمثال الحرية على تلة مرتفعة قليلاً في جزيرة صغيرة في خليج نيويورك، وهو تمثال ضخم لامرأة تضع تاجاً بأسنّة سبعة ترمز لأيام الأسبوع وبحار العالم السبع والأرضين السبع على رأسها، وترفع يدها اليمنى المُمسِكة بشُعلة تُلامس الفضاء  ترمز بها للحرية، وبيدها الأخرى كتاب على غلافه عبارات باللغة الرومانية القديمةن وتاريخ قيام الثورة الأمريكية في العام 1776، وعند قدميها أغلال ترمز للعبودية والاستبداد والقهر.

 وهذا التمثال ـ وهو من البرونز ـ صمّمه وبنَاه المُصمِّم والمهندس الفرنسي (فريدريك بارتولدي)، وقام بإعداد هيكله المهندس الفرنسي المشهور (غوستاف إيفل) باني برج إيفل في قلب العاصمة الفرنسية باريس.

 أهدت فرنسا في العام 1886 هذا التمثال للولايات المتحدة في العيد المئوي للثورة الأمريكية، تعبيراً عن العلاقة بين البلدين، وصار هذا التمثالُ أحد أبرز الرموز الأمريكية في أعظم مدنها وواحدة من أكبر مدن العالم، وهي عاصمة القرار السياسي الدولي لوجود مقر الأمم المتحدة بها، كما أنها بلا مُنازع عاصمة المال والأعمال دون منافس.

والغريب أن المهندس الفرنسي (فريدريك بارتولدي) عرض تمثاله على الخديوي إسماعيل ليوضع عند مدخل قناة السويس، لكن حاكم مصر يومئذ اعتذر منه، ولولا ذلك لكانت السيدة بتاجها ومشعلها وكتابها في أرض عربية…!

يتدفّق ملايين السياح كل عام إلى نيويورك، ويركبون اليخوت والعبّارات والزوارق والطائرات العمودية المُخصّصة لأغراض السياحة، ويزورون تمثال الحرية المُكوّن من عدة طبقات في داخله، حتى يصلوا إلى أعلى التاج فوق رأس سيدة الحرية.. وارتبط  تمثال الحرية بكثير من الأحداث والقصص حول بنائه وافتتاحه، ولعبت الصحافة الأمريكية الدور الأبرز في توفير التمويل له لنقله وتركيبه ونصبه عن طريق الحملات الدعائية لجلب المال وقادها (جوزيف بولتيزر) صاحب جريدة (أخبار العالم  world news) الذي تُمنَح جائزة باسمه تُعَد الأرفع بين جوائز الصحافة العالمية.

 (ت)

كما يُشير المفكّر الاستراتيجي الأمريكي (صموئيل هنتنغون) صاحب كتاب (صراع الحضارات)، فإن الرموز وأعلام الدول وقيمها الثقافية والتاريخية، باتت تُمثّل الكثير في تحوّلات العالم بعد نهاية الحرب الباردة وسقوط الاتحاد السوفيتي، وبداية عصر المكوّنات الثقافية والحضارية ودورها في رسم المواجهات والصراع في العالم، فإن القيم الحضارية باتت تحتاج إلى تعريفات وتموْضعات جديدة في المجالين السياسي الاجتماعي والثقافي الفكري، وتستحق عبارة السائح الأوروبي الذي وجد وجهاً للمقارنة والمقاربة بين مسجد حاج علي في مومباي الهندية أقصى الشرق، وتمثال الحرية في أقصى الغرب عند مدخل نيويورك الأمريكية، تستحق هذه العبارة أن يُنظَر إليها من زاوية تأخذ قيمتها من كونها تدخل إلى لب الحاضر القائم، وقيم الحضارات المتناظرة والمتأهّبة ..

مسجد حاج علي، وتمثال الحرية، كما قُلنا عند مدخليْن لمدينتين تتشابهان في كل شيء، المباني العالية الضخمة والنشاط التجاري والكثافة السكانية والرمزية التاريخية والخصائص النضالية، فمومباي هي مهد الثورات والحركة الوطنية الهندية ضد المستعمر، وحافظت على معالم تاريخها من متاحف وميادين مثل ميدان (أزاد) الذي انطلقت منه الأنشطة السياسية الثورية ضد الإمبراطورية التي لم تَغرُب عنها الشمس، ولا يزال هو ملتقى الهنود في أنشطتهم السياسية وتجمّعاتهم الدينية وطقوسهم الحياتية، وتوجَد بوابة الهند التي أقيمت تخليداً لذكرى موت 90 ألف جندي يتبع لجيش الملكة فيكتوريا في الحرب العالمية الأولى، ومحطة (شيفا جي) التي زارتها الملكة نفسها بالإضافة إلى معالم مهمة أخرى.

 ونيويورك لديها ذات الخصائص التاريخية المهمة، بالإضافة إلى قيمتها السياسية بوجود الأمم المتحدة عند ضفة النهر الشرقي في منهاتن..

(ث)

يطل مسجد حاج علي، على المدينة الصاخبة وشواهقها من بنايات، وهو يحمل قيمة الزهد والتسامُح والنقاء والصفاء الروحي، ويمُد جذوره إلى تاريخ الرجل الذي بناه وضريحه، فقد جعل (حاج علي) قِيَم الإسلام العظيم تسري وسط الناس، خاصة العطف والتكاتُف والتعاون ورفض الطغيان وحب الخير، وجعل من الإيمان الذي يملأ فيها الأنفس هو المعبر نحو السماء التي تبدو قريبة من الهلال في أعلى المئذنة، ويُجسّد المسجد بمعماره المهيب والإبداع داخل جدرانه ولون قُبّته الزرقاء اللامِعة مع بياض الجدران من الخارج، صورة حقيقية للإسلام كدعوة ودين ينتشر بالمعاملة، وتُفتَح له القلوب عندما تراه يمشي على قديمين، يتجلى في السلوك والمعاملات اليومية ثم إشاحة الوجه عن الدنيا والزهد عن ما فيها، وهو الدين الذي قدّمه حاج علي لسكان مومباي قبل ستة قرون، ليس فيه غير الاعتزاز والكبرياء والصفاء وسبر أغوار الحياة على حقيقتها.

 عاش (حاج علي) وكل الدنيا بمعيار ذلك الزمان، تجري بين يديه، إن أراد لذائذها، فهي طوع بنانه، ولو رغب في رغدها ونعيمها فما أكثر في خزائنه، لكنه وهو في قمة الثراء يجد الله قريباً منه، وهو قريب من رحابه، لعل البحر والليل والأذكار والأسحار وظُلمة الموج والليالي الطويلة، تجعل من الروح في مداراتها صادقة مُنيبة تؤوب إلى بارئها، فتعاف الدنيا وتسرع بخفقانها وأسفارها إلى أعالى السماء.. فلم يقدم المسجد وصاحبه إلا رسالة الإنسانية في أرقى تجلّياتها، فخلد الرجل ومسجده وسيخلده عبر الأزمان كقيمة حضارية إنسانية لم تعرف التفريق بين البشر ولا إرهابهم، ولا التكبّر عليهم ولا البطش بهم.. رجل فرد صنع كل هذا.. فقط بصلاح قلبه ونقاء فؤاده..

(ج)

 في المقابل… يُمثّل تمثال الحرية قيم الحضارية الغربية عندما كانت الثورات ضد الظلم في أوجها، لكنها لم تتجسّد إلا كقيم افتراضية، ففرنسا التي أهدت تمثالها كانت تُمارس في ذلك الوقت أبشع أنواع الاستعمار، وقهر الشعوب في العالم الثالث في أفريقيا وجزر كثيرة في المحيطات، الأطلسي والهادي والهندي، كانت أياديها التي تُهدي بها التمثال مُلوّثة بالدماء والِغة فيها، كانت الدول الأوروبية تبني حضاراتها ونهضتها الحالية من دماء وعرق وثروات الشعوب المقهورة والمستعمرة، ولم تكن الحرية تعني إلا حرية الإنسان الأبيض مع رفيقه الأبيض مثله، وهما يمتصان دماء الشعوب، ولم يُعبّر تمثال الحرية عن الحرية التي أعلن عنها، فموج المحيط الأطلسي الذي حُمل عبره التمثال من فرنسا إلى الساحل الشرقي للولايات المتحدة الأمريكية،هو ذات موج المحيط الذي عبرته آلاف السفن تحمل الأفارقة وهم يُباعون كرقيق وعبيد في بلاد العم سام، وكان تُجار الرقيق الأوروبيين والأمريكيين عندما يصلون الموانئ الأمريكية، ومن بينها الميناء الذي نُصِب عند مدخله تمثال الحرية، تكون أشداقهم قد انتفخت من لعناتهم لكلمة الحرية وشتائمهم المقزعة لضحاياهم وطرائدهم من العبيد الأفارقة، وسياط التعذيب اللعينة غرقت في دماء الضحايا وعلِقَت بها أشلاء من لحومهم المُعذَّبة ..!

ولم تتغيّر النظرة الغربية منذ نصب التمثال في جزيرته الصغيرة، فالحرية ليست عُملة قابلة للتداوُل لكل شعوب الأرض، صُمّمت كما تمثالها لخداع الأمم المُستَضعَفة لنهب ثرواتها والسيطرة عليها وسلب إراداتها وهويتها، فالظلم الغربي وجشع الحضارة الغربية تتناقض مع قيم الحرية وفضائلها ومثالاتها..

ستظل دورة الحياة والتاريخ هكذا… ما بين المسجد والتمثال المُتخيّل لقيم الحرية.. ووجه المقاربة أن البقاء دائماً للأصلح، فكما ينبثق الضياء من الشرق ثم يغرب في الغرب.. سيُعطي مسجد حاج علي قيمه وضياءه .. لأن تمثال الحرية وقيم الحضارة الغربية المُتوهّمة تزوي وستغيب..!!!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى