مُشاهدات “فرح السودان الكبير”

الخرطوم: محمد جادين

كَانَ المشهد مُهيباً، والدموع حاضرةً، والمشاعر الجيّاشة تفيض بسخاءٍ لحظات التوقيع على الوثيقة الدستورية والاتّفاق النهائي بين قِوى الحُرية والتّغيير والمجلس العسكري بقاعة الصداقة أمس.. وقع السُّودانيون بأحرفٍ من “نورٍ” و”نارٍ” وأمنيات وآمال صفحة جديدة من صفحات تاريخ السودان، قطفوا ثمار “السّلمية” وزفُّوا “عزة” عروساً مُخَضّبة بدماء الشهداء في لحظاتٍ تداخلت فيها مشاعر الحُزن والفَرح في حضرة وطن يُلملم جراحاته ويخطو بثباتٍ نحو “الشمس” والحُرية والانعتاق، ينهض من ركام الخيبة، وينسل كما طائر “العنقاء” من رماد الحريق، ليُؤكِّد أنّ أحلام الثورة لم تمُت، وروحها تروي حكاية شَعبٍ قهر المُستحيل لتحقيق تَطلُّعاته، شَاهراً سيف التحدي والتّجدُّد والاندفاع كَمَا “النيل” في شهر أغسطس الحالي بعنفوانه شاهدٌ على بداية جديدة عُلِّقت عليها آمال السودانيين بتحقيق شعار الثورة “حرية”، تُرفرف في سماء البلاد، “وسَلام” يعم ربوع الوطن المُنهك ليطوي صفحة الحُروب والنزاع، و”ثورة” كانت وما زالت خيار الشعب تُؤسِّس للوطن المُرتجى وتحقيق الأمنيات إلى واقعٍ مُعاشٍ بانتصار “السنبلة” على أسراب “الجَراد” في تَحوُّلٍ حقيقي يفتح الباب لديمقراطيةٍ مُستدامةٍ لا تعرف الرّدة وتكسر الحلقة المُفرغة للأبد “مدنية” يبتلعها “انقلابٌ عسكريٌّ” كَمَا جرت العادة منذ الاستقلال.

بالأمس عقب التّوقيع على الاتفاق النهائي بين “العسكري” و”التّغيير”، دخلت البلاد مرحلة جديدة تعبر من خلالها الفترة “الانتقالية” المحكومة بثلاث سنوات تُتوّج بانتخابات حرة ونزيهة ليختار السُّودانيون من يحكمهم، ولكن مازال الطريق محفوفاً بالتحديات، خاصّةً في مسار السلام لأنّ بعض القِوى الحاملة للسلاح لم تنضم إلى الاتفاق بعد ويُنتظر أن يكتمل “فرح السودان” كما سُمى احتفال الأمس خلال الـ “6” أشهر المُقبلة من عُمر الحكومة الانتقالية ليعبر السودان بكلياته إلى “مدنية” كاملة غير منقوصة وقطف ثمار الثورة التي دخلت مرحلة البناء.

حُضُورٌ كَثيفٌ

منذ صباح الأمس، شهدت منطقة الاحتفال حراكاً غير مسبوقٍ، وانتشاراً كثيفاً للقوات النظامية المُختلفة لتأمين مُحيط “قاعة الصداقة” مكان الاحتفال، وتسابق الإعلاميون منذ وقتٍ مُبكِّر لاحتلال مواقعهم لتوثيق الحدث الأبرز في تاريخ السودان القريب، ورغم الإجراءات الأمنية المُشَدّدة وإغلاق شارعي “النيل” و”الجامعة” تماماً من حركة السّيّارات، نَجَحَ عَدَدٌ كَبيرٌ من المُواطنين يتوشّحون بأعلام السودان في الوصول إلى مُحيط قاعة الصداقة، وامتلأ جسر جزيرة “توتي” بحُشُودٍ غير مسبوقةٍ، حيث بدأت الاحتفالات بالهتافات والأهازيج حتى قُبيل التوقيع النهائي على الاتّفاق، مرددين الكلمة التي لطالما شقّت الحناجر منذ فجر الثورة “مدنياااااو” من كل جنبات المكان وكأن صداها يُجاوب رجع صدى هُتافات داوية من شارع النيل من أمام قاعة الصداقة.

من الداخل

كَانت الصُّورة من داخل قاعة الصّداقة لا تَختلف كثيراً عن الاحتفالات العفوية من الخارج، وكان اللافت التّشدُّد الكبير في الدخول إلى القاعة التي شَهِدَت الفعالية والتوقيع، حيث كانت البُطاقة المُخصّصة أو “كرت” الدعوة السبيل الوحيد إلى ولوج مكان الاحتفال، القاعة من الداخل بدت في حُلّةٍ زاهية تأهُّباً للتوقيع والاحتفال المُرتقب، المُوسيقى كانت حاضرة في المكان وأغاني “الكورال” والأناشيد تلهب حماس الحُضُور المُتنوِّع من مُختلف قطاعات الشعب السوداني، بجانب السفراء وأعضاء السلك الدبلوماسي المُعتمدين لدى البلاد.. المقاعد الأمامية خُصِّصت لضيوف البلاد الذين شَكّلوا حُضُوراً لافتاً، بجانب قيادات المجلس العسكري وقِوى الحُرية والتّغيير والشخصيات الوطنية.

ضُيُوف البلاد

بدأ برنامج الاحتفال بتلاوة آيات من القرآن الكريم أعقبها أيضاً تلاوة من “الإنجيل”، ومن ثَمّ توالت كلمات الترحيب بضُيُوف البلاد الذين شكّلوا حُضُوراً لافتاً وجد ترحيباً كبيراً من الجميع، وتوسط رئيس المجلس العسكري الانتقالي الفريق أول ركن عبد الفتاح البرهان، رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت والرئيس التشادي إدريس ديبي، وبجواره أوهورو كنياتا رئيس كينيا، وكان الحضور الطاغي لرئيس الوزراء الإثيوبي آبي أحمد الذي وجد ترحيباً خاصّاً من السودانيين، وكان نجم الاحتفال بلا مُنازعٍ من ضيوف البلاد، حيث كانت تُردد الهتافات ويدوِّي التصفيق الحار كلّما ذكر اسمه من مُقدِّمة الحفل.

لهجة سُودانية

بدأ الاحتفال بكلمة للوسيط الأفريقي البروفيسور محمد الحسن ولد لبات الذي وَجَدَ تَرحيباً غير مَسبوقٍ تقديراً لجُهُوده الكبيرة حتى تَوصّل السُّودانيون إلى هذا اليوم الحاسم، وبادّل ولد لبات، الترحيب بعلامة النصر التي تَعَوّد أن يرفعها كُلما تردّدت هُتافات مدنية، وبكلماته المُؤثِّرة تحدث الوسيط الأفريقي عن الإنجاز السوداني، ووصفه بأنّه درسٌ عنوانه “السلمية” يُؤكِّد على أنّ الأفارقة قادرون على حل مشاكلهم في البيت الكبير دُون إملاءات أو تدخلات خارجية، وخلال فترة تواجده التي امتدت لأكثر من “4” أشهر تأثّر الوسيط الأفريقي بالروح واللهجة السودانية من خلال مُعايشته اليومية لتفاصيل التفاوُض بين المجلس العسكري وقِوى الحُرية والتّغيير، وهو ما أكّده رئيس مُفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي خلال كلمته وقال إنّه عندما يتصل بـ”الموريتاني” الوسيط ليسأله عن سير عملية التفاوُض أصبح يرد بلهجة سودانية خالصة ويستخدم “أي” بدلاً من “نعم”، ويقول “بدينا يا دوب” أثناء دخول جلسات المُفاوضات.

دموع وقصاص

عقب كلمة الوسيط الأفريقي محمد الحسن ولد لبات، تم عرض فيلم وثائقي عن محطات من الثورة ولقطات من الاعتصام أمام القيادة العامة، وعندها اختلطت مشاعر الفرح والحُزن خَاصّةً عندما أطلت صور شهداء الثورة، عندها لم يتمالك الكثيرون من الحُضور إلا وأن أجهشوا بالبكاء وعلت هتافات “الدم قصاد الدم ما بنقبل الدية والدم قصاد الدم لو حتى مدنية”، وتعالت الأصوات للمُطالبة بقصاص الشهداء، وامتلأت الروح الثورية بمكان الاحتفال عندما صدحت الأناشيد وعمت القاعة….

يا شعباً لهبك ثوريتك

تلقى مُرادك والفي نيتك

وعمق إحساسك بي حُريتك

يبقى ملامح في ذريتك

على أجنحة الفجر ترفرف

فوق أعلامك

ومن بينات أكمامك

تطلع شمس أعراسك

الفتيحاب حاضرة

أزاح رئيس مفوضية الاتحاد الأفريقي موسى فكي، جانباً من تاريخ صلاته بالسودان، وكشف عن قضائه فترة من حياته في حي “الفتيحاب” بالعاصمة الوطنية “أم درمان”، وقال إنّه خلال فترة الثمانينات من القرن الماضي كان يقطن مع أسرة سودانية بـ”الفتيحاب”، وأشاد فكي بالحفاوة السُّودانية التي وجدها خلال تلك الحقبة، وقال إنّ الكرم السوداني كان حاضراً رغم سكناه مع أسرة مُتواضعة الحال، ورغم قسوة الجفاف الذي ضرب البلاد وقتذاك، ولفت إلى أنّ هذا الكرم ظَلّ مُستمراً في كل زياراته الى السودان، كرئيس للوزراء التشادي، أو مبعوثاً ومُفوّضاً من قِبل الاتّحاد الأفريقي لعدة جولات تفاوضية شملت “نيفاشا والدوحة”.

أشواق الوحدة

أظهر احتفال التّوقيع على اتّفاق الفترة الانتقالية في السُّودان، حالة الحُب الكبيرة التي يكنها الشعب السوداني للجارة الشرقية إثيوبيا، وحجم الشوق وآمال عودة دولتي السُّودان لما كان عليه الحال قبيل انفصالهما في العام 2011، وتردّدت هتافات دواية أثناء كلمة رئيس دولة جنوب السودان سلفا كير ميارديت “الليلة ما بنطلع إلا الجنوب يرجع”.

وتأسى مُمثل قِوى الحُرية والتّغيير في الاحتفالية، محمد ناجي الأصم، على انفصال جنوب السودان في العام 2011 بسبب سياسات نظام البشير، واصفاً ذلك بالأمر القاسي، وقال الأصم: “سنعمل على أن نعود كما نود، فراقنا كان قاسياً ولكن التئام شملنا مُمكن مع الجنوب نصفنا الحلو، وعندما نقول السودان نتخيّل هذه الخريطة الأليفة الكثيفة بالتنوُّع والتّعدُّد، نقترب ونتعاضد ونعمل سوياً لتطوُّرنا ونمائنا المُشترك”.

ورد رئيس دولة جنوب السودان، سلفا كير ميارديت التحية بأحسن منها، وقال “دعمنا للشعب السوداني ليس من باب الدبلوماسية الدولية ولكن هو التزامٌ منا لأننا شعبٌ واحدٌ”.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى