مراتع الشباب

كما للناس محبة لمراتع الصبا ومرابض اللهو البريء في الطفولة، فإن للشباب مراتع وأطلالاً كان يتّكئ إليها وأودية يغسل فيها عرق يومه من عمل حلال ينتفع وينفع به. فمثل هؤلاء كانت لي مكة المكرمة التي قال عنها النبي صلى الله عليه وسلم لأنتِ أحبَّ الديار إلي ولولا أن أهلك أخرجوني منك لما خرجت. لِمَ لا ومكة المكرمة فيها بيت الله الحرام ومسكن ذرية أبي الأنبياء سيدنا إبراهيم عليه السلام. وصبرت على وحشتها أمّنا هاجر وابنها إسماعيل عليه السلام حتى أمن الله وحشتها أولاً بنبع زمزم، ثم الطير الذي حام حول النبع لترى الطيرَ قبيلةُ جرهم لتعلم أن هذا الطير لا يحوم إلا حول ماء. ولما وردوا وجدوا أمنا هاجر وطفلها. وعلى اعتبار أن الحقوق في الأرض أصبحت لها بحكم أقدمية الوجود (حاكورة)، فإن جرهم وافقت على هذا العرف، ووافقت على حقوق الانتفاع وليس الامتلاك. ومن هنا واستجابة للآية الكريمة ودعوة سيدنا إبراهيم فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم وأرزقهم من الثمرات. فكان فؤادي أحد الأفئدة التي أوت إلى مكة في عز العطاء ومجد الأداء منقولاً إليها من جدة مترقياً في شركة تعنى بتركيب المصاعد والسلالم الكهربائية، ونجحت في ذلك بتركيب مئات المصاعد لعمارات زبائننا السعوديين والذين أصبح بعضهم أصدقاء حميمين لنا. لكن الأعظم من ذلك أني خدمتُ الحرم المكي بتركيب السلالم الكهربائية المؤدية إلى سطحه في أواسط الثمانينات من القرن الماضي، وهكذا أقول إن مكة المكرمة مرتع شبابي. ثم أديت فريضة الحج لعام 1989 وودعت تلك المحاريب المقدسة، وقفلت راجعاً إلى وطني. وبعد ثلاثين حجة تهيأت لي الظروف أن وصلت مكة المكرمة ناوياً الحج بفضل الله ثم بمكرمة ملكية خاصة من الملك سلمان. قد لا يصدق المرء مدى الشوق الذي يسبقني والشعور الدفّاق الذي انتابني عندما استقللنا الباص من جدة إلى مكة المكرمة. واسترجعت شريط الذكريات مع عائلتي زوجتي وأطفالي الصغار مواليد مكة المكرمة. وأصدقائي السودانيين والسعوديين الذين عاشرتهم. كنا في مكة نعيش رغد العيش وسعادة البال. والتشبع الروحي بالعمرة إلى العمرة والحج إلى الحج وبين العمرة والحج نتضلع من ماء زمزم. وكما قال الشيخ البرعي من زمزم نتضلع ولربنا نتضرع . عرفت مكة والحج إليها عام 1976 ثم استقراراً كاملاً بها لحوالي تسع سنين من 1980 إلى 1989. على الإنسان أن يتخيل مدى الذكريات التي خلفتها هذه المدة من شوارع مررنا بها وأحياء سكنّا فيها، ومجتمعات عاشرناها. وأسر ألفناها. وحوارات أدرناها. وما أن تحاصرنا الهموم حتى نلجأ إلى الحرم الشريف لنتمرغ في صرحه ونُقبّل الحجر الأسعد ونطوف.

وهكذا تتساقط همومنا كما يتساقط الورق الأصفر من الشجر. أتذكر كل ذلك والبص ينهب الأرض نهباً من جدة. ولكني أحس وكأن البص يمشي الهوينى من شدة الشوق. وما أن اقتربنا من أم القرى حتى تزاحمت عليَّ الذكريات حتى بِتُّ وكأني في غيبوبة أو حلم في الكرى أخيال أنا فيه أم حقيقة، أنا في أم القرى.. وصلنا مكة المكرمة، اختلف الماضي عن الحاضر. حاضرنا الذي عشناه أصبح جزءاً من التاريخ. تغيرت الأحياء وعمرت أكثر مما عمرت. والعجب العجاب التطور الذي حصل للمسجد الحرام لراحة الحجاج والتوسعة فيه وحوله للتنفيس عن الحجاج. أعداد الحجاج تزداد رويداً رويداً لتشاهد الناس زرافات ووحدانا راجلين وركبانا. كل ذلك شوقاً إلى الكعبة المشرفة التي تقع وسط المسجد الحرام. من أول يوم أذن فيه سيدنا إبراهيم بالحج، لم يتوقف الطواف عن البيت العتيق لحظة. إن قلّ عدد الطائفين فيه من البشر زاد عدد طائفيه من الملائكة لتقيه مكائد الفتن والشر. لكن ظلت مكة هي مكة رغم المتغيرات الدنيوية. تخيلت الجنود الذين يخدموننا شباباً وكنا نمزح معهم ونحن في الحج أو العمرة. ربما ذهب أغلبهم إلى رحاب الله. والأحياء إلى رحاب بيوتهم معاشيين. إلا أنهم خلفوا من أصلابهم شباباً في نفس السماحة والابتسامة والأدب. الكل يخدم حجاح بيت الله الحرام..اليوم نحن نستشرف ثالث أيام ذي الحجة والأعداد تتكاثر والإعداد يتهيأ ويتجمل طاعة لله. وإكراماً لضيوفه. الحمد لله (بلّيت) شوقي من الحرم، لكني دوماً أتذكر أترابي واصدقائي الذين كنت أساجلهم وأسامرهم. أين ذهبوا؟ بعضهم ذهب إلى بارئه وآخرون أحياء ذهبوا إلى أوطانهم. الموتى يرحمهم الله هم السابقون ونحن اللاحقون. والأحياء نسأل الله لهم التوفيق أن يمُن عليهم الله بحج بيته كما منّ الله علينا. وكما هفت أرواحنا إلى بيت الله الحرام تهفو إلى زيارة نبينا محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة للتشرف بالسلام عليه والصلاة في مسجده صلى الله عليه وسلم. نرجو من الله أن يوفق الملك ورجاله ونساء مملكته لخدمة الحرمين الشريفين وتسهيل مهمة حجاج بيت الله الحرام.

كل عام والناس تكتشف جهداً جديداً لراحة الحجاح. بقي لي أن أشكر سفير خادم الحرمين الشريفين بالخرطوم الذي انفتح على المجتمع السوداني ويسهل للحجاج ويساهم في زيادة منح الحج للسودانيين هذا العام. وأشكر شخصياً الدكتور إسماعيل الماحي رئيس أنصار السنة المحمدية الذي زكّاني لنيل المكرمة الملكية التي سمحت لي لحج هذا العام.

ربنا يتقبل حجنا جميعاً. ويجعله حجاً مبروراً وسعياً مشكوراً وذنباً مغفوراً وعملاً صالحاً مقبولاً. آمين يا رب العالمين.

د. محمد عيسى عليو

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى