في الأبعاد والأنوف..!

“الناس في أعقاب الثورات يكونون محكومين بنفسياتهم أكثر مِمّا يكونون محكومين بالأنظمة التي تُفرض عليهم”.. بلال فضل..!

الصحفي والمُؤرِّخ السِّياسي المَصري الرّاحل “محمد حسنين هيكل” كَتَبَ مُعقِّباً على تقرير للمُخابرات المصرية بشأن قائد العَمليات الإسرائيلية في فَلسطين، اقتصرَ في تَوصيفه على أنّه “فلاحٌ ضخم الجثة”. وعن هذا يقول “هيكل” إنّ ذلك القائد الإسرائيلي كان مُفكِّراً سياسياً مُهمّاً، وكانت له وقتها كتبٌ تملأ الأسواق في أوروبا، وإنّه لمن الغريب حقاً أن لا يقول عنه تقرير المخابرات – في بلاده – سوى أنّه “فلاحٌ ضخم الجثة”..!

وعندما قرأ الكاتب الأمريكي “لويس ممفورد” قصص “الديكامريون” للكاتب الإيطالي “جيوفاني بوكاتشيو”، لم يتحدّث عن الجوانب الإبداعية والانعطافات الفنية في هذا العمل الأدبي العظيم، بَل ذكر في كتابه “نشأة المدينة الحديثة” إنّها عبارة عن مائة قصة قصيرة، ترويها سبع نساء وثلاثة رجال، وتدور أحداثها خلال عشرة أيّام أمضوها في ضَواحي “نابولي” هرباً من الطَاعون، وقد كان ذلك في منتصف القرن الرابع عشر. وإن هذه القصص تثبت أن الناس في القرن الرابع عشر كانوا يهربون إلى الضواحي عندما يشعرون بالتّعب، ومِن هُنا ظَهرت ضَرورة الضاحية بالنسبة لسُكّان المُدن. ولعلّ “ممفورد” كَانَ يدرك القيمة الفنية لهذا العمل الأدبي، لكن انشغاله بالبحث عن تاريخ “نشأة الضواحي” هو الذي جعله يرى فقط هذا الجانب..!

“مارك شاغال” – أبرز رُوّاد المَدرسة الرمزية في الفن الحديث – له أسلوبٌ مُتفرِّدٌ وفهمٌ خاصٌ للمعنى الحقيقي للألوان، وهو من أصحاب الرسالات التي تجاوزت أُطر التّصنيفات الضيِّقة إلى رحابة الانتماء الإنساني الجليل. وقد اشتهر تكنيك “شاغال” بتلك المخلوقات الغريبة الطائرة التي تطفو على أسطح لوحاته المُلوّنة، من زاويةٍ بعينها، وهي تنظر إلى التّفاصيل المَرسومة من خارج اللوحة وداخل الإطار. وكذلك يَفعل مُعظم الناس عندما يتأمّلون تفاصيل الحياة من حولهم، من زاوية واحدة..!

وعن هذا الضرب من السلوك الإنساني في كيفية النظر إلى مُجريات الأمور يقول الكاتب المصري الراحل “أنيس منصور” إنّ لكلِّ إنسان جانباً خاصاً من هذا العالم ينظر منه إلى طبيعة الأشياء، وينظر إليه كلّما حَاوَلَ أن يفهم حَقيقة بعينها، وهو في نفس الوقت يجعلنا ننظر إلى ذات الأمر من زاويته هو..!

في هذه الدنيا، لا وجود للإنسان بعيداً عن بعض الزوايا، ولا حَياة له خارج بعض الأُطر، لكننا قد ننفصل أحياناً عن بعض المَواقف في لوحات الحياة فنرقب عن كثبٍ وبعدٍ – في آنٍ معاً – بعض الثوابت والمُتغيِّرات في تفاصيل عالمنا، فلا ننساق وراء مآزق التّطبيع مع الإحباط والهزائم، ولا نقع في أفخاخ التّعميم عند النُّطق بالحُكم على سُلُوك الآخرين. فننعم – حينئذٍ – بالنصف المُمتلئ دَوماً من كوب الحياة..!

بلادنا تَمُر بمنعطفٍ زَلِقْ، زواياه خَطيرةٌ، وحوافه باترة، والتّاريخ يقول إنّ التّطرُّف في بعض الأفعال، وفي كل ردود الفعل لا يخلق شيئاً سوى الفوضى الهَدّامة حاضراً، والندم العميق مُستقبلاً. هذا الوطن بحاجةٍ إلى أن ينظر مُواطنوه إلى ما هو أبعد من أرنبات أنوفهم. هذا الوطن بحاجةٍ إلى شَعبٍ ينظر إلى صالحه العَام من كُلِّ الزوايا المُمكنة، لا من زاويةٍ واحدةٍ، قد تُضَخِّم – حيناً – بعض الصور، وقد تُغْفِل – أحياناً – بعض الحقائق.. فهل – يا تُرى – من مُذَّكِر.؟!

منى أبوزيد

[email protected]

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى