حين تتجاوز النيابة.. سُلطاتها !

تحليل سياسي: محمد لطيف

ليست هي المرة الأولى التي سأكتب فيها عن سلطة النيابة في حظر النشر.. كما أنّني لن أكون أول مَن كَتَبَ في هذا الأمر.. فقبل سنواتٍ طَويلةٍ.. وفي ذات روزنامةٍ.. كَتَبَ الأستاذ كمال الجزولي المحامي والناشط الحُقُوقي المَعروف.. مُرافعة مطولة فَنّدَ فيها حجج النيابة العامة في سُلطتها بحظر النشر في الدعاوى التي تُباشر فيها التّحري أو التّحقيق.. بل ذهب الجزولي إلى أكثر من ذلك.. فتحدّى النيابة أن تبرز مادةً واحدةً في كل القوانين السارية في جمهورية السودان تستند عليها في طلب حظر النشر.. ولاهتمامي بالأمر.. ولمُتابعتي اللصيقة للمَوضوع.. ولصلتي بالأستاذ كمال الجزولي.. أستطيع أن أؤكِّد أنّ النيابة لم تفعل حتى يوم الناس هذا.. ولكن النيابة فعلت شيئاً آخر.. فالواقع أنّها قد مارست الهروب إلى الأمام.. كيف ذلك..؟

لقد عمّم مجلس الصحافة والمطبوعات منشوراً جديداً صادراً من النيابة.. نيابة مكافحة الفساد والتحقيقات المالية.. بحظر النشر في الدعاوى الجنائية كَافّة، التي تنظر فيها نيابة مُكافحة الفساد والتّحقيقات الماليّة.. وقد استندت النيابة في أمر حَظر النّشر هذا، على المادة 26 من قانون الصحافة والمطبوعات الصحفية للعام 2009.. ويبدو للوهلة الأولى أنّ النيابة المُوقرة قد قَطَعَت الطريق على أيِّ اعتراضٍ أو تَحَفُّظٍ على قرارها هذا.. طالما أنّها قد استندت على نصٍ صَريحٍ في القانون.. ولكن مَهلاً.. فطالما اختارت النيابة أن تُورد مادة بعينها.. فلا بأس من الاحتكام لنص المادة.. فالمادة 26 من قانون الصحافة تنص على الآتي: في البند (1) (ه).. وهي للعلم مادة مُتعلِّقة بواجبات الصحفي.. (ألا يُعلِّق على التحريات أو التحقيقات أو المُحاكمات إلا بعد الفصل فيها بصفةٍ نهائيةٍ)..!

إذن.. المادة التي تستند إليها النيابة.. تتحدّث عن منع التعليق.. لا عن مُجَرّد النشر.. فالتعليق هو أن يُبدي الصّحفي رَأياً لشخصه.. أو لمصدرٍ من مَصادره.. حَول وقائع ينظر فيها في واحدةٍ من مُستويات العدالة.. وهذه يجمع على منعها كل فقهاء القانون والمُشرعين في العالم.. لما لها من تَأثيرٍ على سير العدالة.. أمّا نشر الوقائع فهو أمرٌ مُختلفٌ تماماً.. فالمادة 26 نفسها لم تتحدّث عن منع نشر الوقائع.. بل حَظرت التّعليق عليها.. ذلك أنّ نشر الوقائع مَسموحٌ به.. استناداً على القاعدة الفقهية.. إنّ الأصل في الأشياء الإباحة.. وإنّ الحظر هو الاستثناء.. وإنّ الاستثناء لا يتم إلا بقانونٍ.. وهذا رأي القانونيين على كُلِّ حَالٍ.. إنّه ما لم يكن هُناك قَانونٌ يحظر نشر وتداوُل الوقائع كَمَا جَرَت.. فليس للنيابة ولا لأيِّ سُلطة أخرى أن تُمارس أيِّ حظرٍ على نشر تلك الوقائع.. ولعلّنا نذكر هنا أنّ طلاب الصحافة في كلياتها المُختلفة يدرسون مادةً كاملةً اسمها.. المجريات القضائية.. وتعني بتعليم وتدريب طلاب الصحافة على أُسس وقواعد التغطية الصحفية لما يجري في المحاكم.. وهذه المادة وتدريسها لطلاب الصحافة يُؤكِّد ما أوردناه أعلاه أنّ من حَق الصّحافة أن تنشر الوقائع.. سواء كانت هذه الوقائع في مرحلة التّحريات والتّحقيقات.. أي مُستوى النيابة.. أو في مرحلة المحاكمة.. أي في مُستوى القضاء.. استناداً على أنّ الأصل في الأشياء الإباحة..!

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى