الرواية الأولى.. أبقى

الراصد لأمر المبادرات الداخلية والخارجية في شأن الأزمة السياسية بالبلاد، يلحظ أنها تقتصر في شق الإشهار والتفاصيل على أسماء الوسطاء وصور مقابلاتهم مع نزر يسير من الإضاءات عند الضرورة؛ أو في أفضل حال رواية وسيط، كما حدث مع المبادرة الإثيوبية والسفير محمود درير الذي عقد مؤتمراً في أيام حضوره الأول طرح نقاطاً كان واضحاً أنها لم يكن مُخوّلاً له فيها القول بأنها نقاط متفق عليها ونهائية؛ ومثله السفير محمد الحسن البات الذي شف ولم يكشف، بل وكان أقرب لمدرسة التكتم عن الإفصاح في شأن التفاصيل فيما كان واضحاً بالنسبة لمبادرة الجامعة العربية أنها تستطلع ولم تقدم تصورات محددة، وكذا الحال بالنسبة لمبادرة جوبا أو حتى المبادرات الوطنية الداخلية من حزبيين أو أكاديميين سودانيين.

بالمقابل، وإزاء تكتيك المعرفة على قدر الحاجة المتبع من كل الوسطاء تبدو قوى إعلان الحرية والتغيير الأقدر على توجيه ريح الأخبار لمظاهرة مواقفها، فهي التي تسرب صح ما لديها أم لم يصح للرأي العام، محطات فضائية وصحف، وأسافير، فيما يلزم المجلس العسكري الصمت المطبق تاركاً للمراقبين قياس مواقفه من منصات خطابات منصاته في اللقاءات الأهلية والفئوية، فوضح إما أن العسكري لا يرغب في تحديد موقف أو أن الدائرة الإعلامية القريبة منه لا تملك عدلاً أو صرفاً في اقتراح خطوط إعلامية منيرة للطريق له أو للجمهور.

تلك الوضعية كما قلت جعلت رواية (الحرية) هي الأولى والأسبق ومن ثم تسيدت الموقف وصارت هي المرجع، وطبيعي أنك حينما تتحدث أولاً تنشر تشكيلات السيطرة على الجمهور، ولو كان المطروح غير دقيق، ناهيك عن صحته، وبالتالي فكل التصويبات اللاحقة من الوسطاء أو رئيس المجلس العسكري تبدو أقرب لنهج النفي مرة، والتنصّل مرات، لأنه رضي بتفصيل جلباب لم يختر قماشه أو قياساته، فإن مضى به تعثّر أو خلعه وقف عارياً، لأنه لم يبادر بإشهار موقف من بند أو مقترح بالسرعة اللازمة، ورضي لنفسه إعلاميا أن يأتي متأخراً حيث عادة لن يسمعه أحد.

نحن في وضع خلاف حول نقاط معلومة بشأن أجندة المفاوضات؛ والأمر نشط فيه وسطاء ومُسهِّلون؛ وفي ملفات معلومة العناوين، والأمر لا يتطلّب سرية أو تكتُّماً طالما أن الأطراف تنشد فيه أفضلية الحلول وعدل السياقات؛ ففِيمَ التخوُّف إذن من طرح كل تفاصيل المقترحات، وكيف يعقل التخوف من معرفة تفصيل هنا، قد يفسد الأمر؛ وكيف يمكن القول بقبول المواطنين لاتفاقات تُحمى بالصمت والتخوّف لأنه ضرر هذا بالغ، ومكلف إن خرج اتفاق واجهه الناس بالمناهضة، بعد أن يوقع ويصير ملزماً ليخرج إما محل خلاف أو ميتاً ليعود الجميع للتشرذم والتكتلات والجدل العقيم، وربما التصرّفات الحمقاء.

إن كانت آفة النصح أن يكون جهاراً فآفة الاتفاقات أن تكون (سرية ومحظورة)، وأما الأفدح من هذا أن تخرج تسريباتها من طرف واحد وِفق رغباته، وما يقترحه هو، فحينها تظل أجزاء من النص مفقودة…

     

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى