بين البَيْدَقِ والبُنْدُق

   * ذلك (الغَنَّامِي) عندما يأتي من تلك الأودية البعيدة ويدخل قريتنا للتَّبَضُّع من السكر والشاي والملح والتمر والبصل والدقيق والويكة، نرى أننا ذوو فضل عليه، رغم أن السكر والشاي والطاحونة التي تطحن الدقيق لا تنتجها قريتنا وهذه الثلاث هي أهم السلع التي يبتاعها.

   * ففي قريتنا تلك التي تنام مطمئنة على ذراع النيل الأيسر، وتصحو مبتسمة على مشهد الطرابيل التي ترقد منذ بضعة قرون على ذراعه الأيمن، وتفصح عن أقدم الحضارات الإنسانية في تاريخ البشرية، التقيته في عطلة عيد الفطر المبارك قبل حوالي شهر من الآن فسألته بكل غرور الغافلين القافلين من العاصمة إلى الأرياف وهم يظنون أنهم أحاطوا بكل تفاصيل المشهد السياسي. سألته ولم أكن منتظراً منه إجابة ذات بال. قلت له: رأيك شنو في السودان بعد البشير؟! أجابني: والله نحن ما عايزين نعرف الرئيس منو؛ بس عايزين الحكومة توفر لينا الأمان وتجي تشيل أُجْرَتْهَا مننا كل سنة. أما العِيشة بنجيبها بالمرازقة. وكلمة (مرازقة) تحمل في جوفها (السعي والتوكل) فما أجمل دارجتنا! لكني لأول مرة أكتشف أن هؤلاء الغُبُش هم من يَستأجِر الحكومة وأن الحكومة تستأجرنا نحن الذين عَمِدْنا إلى أضيق أبواب الرزق فطرقناها؛ تلك هي الوظائف. فكيف بالله عليكم أن يكون الفهم السياسي لهذا (الغَنَّامِي) -الذي لم يفك طلاسم حروف لغته- أرقى من أفهام من يستعرضون لغاتهم الأجنبية بلا ضرورة؟!

   * هناك مؤشر مهم في كلمات هذا الغَنَّامِي البسيط هو أن الحل الجذري للمشكل السوداني ليس في تشكيل حكومة من هنا أو هناك، ولكن الأهم منه هو توفر الأمن وانكفاء المواطن على الإنتاج بـ(المرازقة).. فالداعمون للسودان قد يرفعون دعمهم في أي وقت ويحدث ما لا تحمد عقباه بين الذين جاءوا إلينا من الفنادق يريدون أن يحجِّموا القادمين من الخناق. وأولئك الذين سئموا اللعب بالبيادق وأراد أن يلعبوا لعبة (الاستغماية) مع حاملي البنادق، فالفرق بين (الفندقي البيدقي) وبين (الخندقي البندقي) كبير لدرجة تعذّر معها التوافُق على تشكيل حكومة والشهر الثالث على وشك الذماع.

   * وهذا الغَنَّامِي الذي أفحمني بإجابته الواقعية الصادقة قد أحس بأنه غير آمن وهو يتجول بأغنامه في واحدة من الولايات المستقرة نسبياً من حيث الأمن، فما بال غَنَّامَةِ (حِدْوَة الهامش) المتمثلة في الشريط الحدودي للشرق والجنوب الجديد ودارفور؟! هذا الشريط الذي تقيم فيه خمسة جيوش غير نظامية؛ إذا جاعت أكلت بِفِيْهِ بندقيتها! فمن من البيادق سكان الفنادق المتعطشين لاستلام السلطة (مدنيااااو) يجيد التخاطب باللغات الحية وإذا دعا الحال فبالذخيرة الحية مع هذه الظروف الأمنية الخاصة؟! فصيل الثوار العسكري وحده هو المؤهل للإجابة على التساؤلات الأمنية وتطمين الغَنَّامَة والمزارعين والصُّنَّاع الذين يدفعون إيجار القصر الجمهوري. والسودان ليس هو الخرطوم وحدها والخرطوم نفسها لولا الثوار العسكريين لأصبحت بركة من الدماء فلا بَيْدَقَ على رقعة الشطرنج يبقى ولا فندقَ يَصْلُح كملتقىً، وإنما خندق وبندق و(بقجة) لا سمح ﷲ.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى