عقار الرضا

رقدت أمي طريحة الفراش الأبيض إثر جلطة دماغية مباغتة وتوقفت الحياة في حياتنا!!

كانت تمارس عادتها اليومية فى السخرية من الحياة وهي بجوارنا في السيارة في طريق عودتنا من مناسبة عائلية.

وفجأة ودون أي مقدمات تبدلت ملامح صوتها فبات كأنه يخرج من جب عميق… أو كأنه صوت مغنٍّ بائس يأتي من أسطوانة مشروخة.

وحين التفتنا نحوها مستفسرين وجدنا وجهها بملامح جديدة متداخله كأن رساماً ناشئاً اجتهد في رسمه فلم تكن العين في مكانها ولا الفم في مكانه.

رحمة الله وحدها ألهمتنا الثبات حتى بلغنا غرفة الطوارئ في ذلك المشفى التجاري الفخيم القادر وحده على توفير الحد المطلوب من الاستشفاء الكريم ولو على حساب جيوبنا المنهكة.

ولستُ اليوم بصدد الحديث عن مآسي العلاج والصحة في بلادي… ولا بصدد التذمر والشكوى ورفع الملاحظات والتوجيهات للمعنيين في العهد الجديد، فهذا أمر معروف ومتفق عليه وينتظر فقط الإجراء الحاسم والتغيير الجذري.

ولكني أتحدث عن الأبعاد الإنسانية لشعورك القاتل بالعجز أمام تداعي الجدار البشري الذي ظللت تتكئ عليه طوال حياتك دون أن تملك من أمر إنقاذه شيئاً سوى بذل الدعوات الصادقة من بين ركام الدموع المالحة التي تصبح لوهلة جزءاً أصيلاً من تكوينك البصري ولا تبارح ميناء عينيك.

وأعتقد أن الاجتهاد في تفسير معنى الأمومة وقيمة الأم في حياة كل منا أمر عسير وشائك … فالأمر متفق عليه، بيد أن التعبير عنه يختلف من شخص لآخر بحسب رؤية كل منا وقدرته على التعبير. والشاهد أن كل واحد يعتقد جازماً أن أمه هي الأفضل والأكمل والأمثل والأروع والأهم في تاريخ الحياة البشرية قاطبة.

وبعيداً عن مكانتها المقدسة في الشرع والعرف الاجتماعي تظل الأم بأعماقنا ذلك السر الحميم والمأوى الرحيم الذى نحمله فى تجويف روحنا المنهكة وننتقل به من مكان إلى مكان ونركن إليه ونلوذ به أينما استقر بنا المقام.

تظل هي السند والسكن والأمان المطلق مهما باعدت بيننا المسافات وكلما حملتنا تصاريف الحياة بعيداً.

ويظل المرء منا على توازنه وصموده بوجه الحياة حتى إذا ما فقد أمه اختل كل ذلك وشارف على الانهيار ما لم يتشبث بالإيمان والرضا.

وقد علمتني التجربة الأخيرة المريرة التي عشناها مع تقلب أمي على فراش المرض لسنوات بدايةً بإصابتها بالجلطة مروراً بضيق الشرايين وصولاً للذبحة الصدرية وقبلهما سرطان الثدي اللعين أن الهمة العالية والرضا هما اللقاح السحري لمكافحة كافة الأمراض المستعصية والمزمنة وحتى القاتلة. فقد كانت أمي دائماً ( تحاحي) جزعنا عليها بابتسامة واسعة وإذعان أكثر اتساعاً لمشيئة الله…. وتظل تعاتبنا وترفد قلوبنا بالصبر والجلد وكأننا أصحاب المصاب الجلل.

كانت ولا تزال على عهد إيمانها واحتسابها لا يناوشها هلع ولا يجزع لها قلب عند المصائب والمحن بل تتلقاها بكل أريحية وبساطة وهي في تمام تهكمها وسخريتها من الحياة تطلق الضحكات وتتجاذب مع كل من يعاودها أطراف الحديث والقفشات.

وأظل أنا الهلوعة الوجلة أرجو الله بقلب صادق أن يكفيني شر العجز أمام آلام أمي…. ويعينني على اقتباس بعض ضوء من قنديل روحها لأضيء عتمة قلبى الموبوء بالغبن والحسرة والهموم.

هذا … والشكر بعد الله للطاقم الطبي والأصدقاء والمحبين الذين قاومنا بهم رياح الفاجعة وكانوا جداراً شامخاً أمّن لنا ما يلزمنا من ظل وريف وسند قوي وكانوا خير معين بالدعوات الصالحات والعطاء الكريم.

وشكراً يا أمي لأنك أمي…. ولأنك قارئتي الأولى وصديقتي الصدوقة التي أتكئ عليها كلما مال الزمن… وأرجو أن تسامحيني على كل الأفاعيل والحماقات الصغيرة التي ارتبكتها في حياتي.

تلويح:

تدوم العافية يا أمي…. وتفضلي فينا درقة ونور…

نقاوم بيك رياح الهم…. وتزرعي في ديارنا سرور

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى