الهوية والشخصية السودانية في مرآة التراث الشفاهي

بقلم: د. حسن عابدين/ باحث في التاريخ الشفاهي

[email protected]

تتردد وتتناقل من حين لآخر روايات شفاهية عن تاريخ السودان الحديث والمعاصر لا أساس لها من الحقيقة التاريخية، إنها روايات يرويها ويحكيها الرواة منقولة عن جيل لآخر ومن شخص لآخر، منحولة موضوعة. صحيح أن في طيات بعضها مثقال ذرة من الحقيقة (kernel of truth )، ولكن تضيف إليها سلسلة الرواة “لشيء في نفس يعقوب” لغرض سياسي أو ثقافي أو اجتماعي ما يعلق بها تحويرًا ومسخاً. تكبر مثل هذه الروايات بمرور الزمن ككرة الثلج بإضافات وتضخيم أثناء عملية السرد والنقل والتداول، فالإشاعة مثلاً وهي شكل من أشكال الروايات الشفاهية عن أخبار وأحداث الحاضر يتناقلها الناس آناء الليل وأطراف النهار، مضافاً الى اصلها وجذورها أو محذوفاً منها.

والإشاعة عند السودانيين تكاد تحل محل الحقيقة في غياب أو تغييب الحقيقة، وهي ملح وشمار المؤانسة والونسة في المجتمع السوداني!

ومن ناحية أخرى تنسب بعض هذه الروايات كل عظيم مرموق من الأحداث أو الشخصيات في تاريخ البشرية القديم والمعاصر لأصل ومنبع سوداني ورده لجذور سودانية! جاء مثلاً في بضع روايات، وفي كتابات مؤرخين هواة أن سيدنا موسى نوبي من شمال السودان، وأن مقرن النيلين الأبيض والأزرق ليس سوى مجمع البحرين، وأن لقمان الحكيم سوداني ! وهناك من زعم أن الرئيس براك أوباما من أصول قبلية سودانية جنوب غرب السودان، وان اسمه الأصلي بركة أبو أمنة ….. هذا ما قاله وكتبه في صحيفة سودانية أستاذ” بروفيسور” في التاريخ الحديث بإحدى جامعاتنا الناشئة !! وهذا القول ربما وفقاً لمنهج العقيد معمر القذافي رحمه الله، وهو يؤصل للعروبة وللتاريخ العربي بأن الروائي الإنجليزي الأشهر شكسبير إنما هو العالم العربي شيخ الزبير!! (عفوا وليام شكسبير).

إن من آفات تاريخنا الشفاهي وتراثنا الشعبي القولي ــ الشعر والغناء والدوبيت، والأمثال والقصص ــ التعلق والتشبث والتنسيب والانتساب لكل عظيم في تاريخ العالم حدثاً كان أم زعيماً عبقرياً، وذلك لتضخيم الذات السودانية الوطنية واصطناع البطولات وصناعة الأبطال، وتقديس الزعماء والقيادات.

وما جاء في طبقات ود ضيف الله بعض مثال عن التراث السناري الغني الزاخر بكرامات و”معجزات” الأولياء والصالحين والمشايخ منها العبور من ضفة النهر للأخرى مشياً على الأقدام فوق الماء، وآخر يعبره طائراً في الهواء لا يمسسه ماء!

كتب أستاذنا البروفسور (البروفسور تحسبو لعب) يوسف فضل في مقدمة تحقيقه للطبقات إن ود ضيف الله لم يك مؤرخا ولا محققاً وإنما ناقلاً ومسجلاً لروايات شفاهية من موقف الحياد.

والسؤال: لماذا هذا التشبث وذاك التعلق بكل عظيم مشهور مذكور من الأحداث والشخصيات في تاريخ العالم والعالمين القديم والحديث والمعاصر ورده لأصل سوداني؟ أزعم أنها عقدة نقص في النفس والشخصية السودانية، وخلل في بنية الهوية السودانية وتنازع بين مكوناتها الدينية والعربية والأفريقانية.

ولسد هذه الثغرة في اللاوعي وتبديد النزاع النفسي الداخلي يطلق السودانيون المسميات والأوصاف والتعميمات على عواهنها ، ترادفاً وتضاداً، تعظيماً وتفخيماً وانتحالاً: فمعركة كرري انتصار لا هزيمة، وحركة ١٩٢٤ ثورة كما الثورة في فرنسا عام ١٧٨٩ والثورة الجزائرية ١٩٥٤، وكل انقلاباتنا العسكرية ثورات وإن لم تك.

أرى أن كل هذا جزء من عقدة النقص في الشخصية السودانية وفي بنية الهوية، ويكون غطاؤها التعويضي الانتساب والتشبه والالتصاق بكل ما هو عظيم مرموق، وبكل شهير مذكور في التاريخ الإنساني… ثم تضخيم وما يشبه التقديس لكل ما جاء في طيات التاريخ والتراث الشفاهي :

تقولي شنو …… تقولي منو

أنحنا الساس نحنا الراس

أنحنا الشان ونحنا النان

أتينا عشان نسوي الدنيا للإنسان “

ألا رحم الله الشاعر الكبير والديبلوماسي القدير سيد أحمد الحاردلو.

د. حسن عابدين

باحث في التاريخ الشفاهي

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى