الدم الرخيص !!

لم يُسترخَص في تاريخنا الوطني الممتد منذ المهدية وحتى اليوم مثلما استرخص الدم هذه الأيام.

صحيح الحروب والنزاعات المسلحة والصراعات القبلية حصدت أرواح الآلاف من الضحايا الأبرياء ولكن دماء الناس لا تعاير بالكم، وقطرة دم واحدة تراق في هذا الوطن لهي أثقل عند الله في ميزان الحساب من جبل أحد.

وقبل أن تجف أنهار الدم التي سالت في الخرطوم جراء فض الاعتصام الذي حملته لجنة التحقيق الحكومية إلى لواء في القوات النظامية، ومن تحته عدد محدود من الجنود، ها هي الأبيض عاصمة إقليم كردفان تغرق في فصل الخريف في بحر من دماء شبابها ومستقبلها القادم، ثمانية شهداء حتى بعد مغيب شمس الإثنين الأسود في كردفان ودعتهم أمهاتهم بالنحيب والدموع والآهات، خرجت من أحياء المدينة جثامين الشهداء تحفها دعوات الغلابة والمساكين الى مقابر دليل ومقابر ود بوصفية

خرجت الحرائر دامعات الأعين منكسرات الخاطر من قلب حي القبة، أروبا، وودالياس، وحي فلسطين وحي الشويحات، وأمير الطين، وأمير القش والقلعة جنوب والقلعة شمال وكريمة وحي الرديف، والمظاهر وحي السلام وود عكيفة ومن قبة الشيخ إسماعيل الولي ومن تكية الشيخ عبد الباقي العركي، ومن بيت الناظر ود زاكي الدين، ومن قشلاق الفرقة الخامسة (الهجانة أم ريش أصل الديش).

خرجت الأبيض حزينة خائفة على مصير وطن بات رجاله وحماته يقتلون أطفاله ببشاعة غير معهودة وإهمال واستهانة بأرواح من كرمهم رب العباد. والأبيض في تاريخها النضالي الطويل منذ انتفاضة شعبان ضد النظام المايوي الأسبق، وانتفاضة ١٩٨٢ التي قادها طلاب مدرسة خورطقت الثانوية. ومظاهرات واحتجاجات عام ١٩٩٠و٩٥وحتى ثورة ديسمبر التي أطاحت بالبشير في أبريل الماضي لم تفقد المدينة في يوم واحد، هذا العدد الكبير من أبنائها الذين خرجوا مثل غيرهم من شباب السودان في احتجاج سلمي رفضاً لتقرير لجنة التحقيق الحكومية بشأن فض الاعتصام خرجوا يهتفون بحناجرهم الغضة، ويرفعون أصابعهم ويصفقون للمارة في مشهد حضاري وسلوك أرسته أدبيات شباب السودان الجديد، ومجرد اقترابهم من أحد فروع البنوك الأجنبية، أطلقت عليهم القوات الحكومية الرصاص الأخرس الأعمى ليتساقط الشهداء مثلما تساقط أجدادهم في شيكان، وهم لا يملكون في هذه الدنيا إلا الكراس والقلم.

إن مأساة الإثنين الأسود في عاصمة كردفان تتطلب من السلطة تقديم الجناة الحقيقيين إلى محكمة تنعقد في كردفان حتى يترافع عن الشهداء أبناء كردفان من أحمد إبراهيم الطاهر المحامي، وحتى دلدوم الختيم أشقر، وصالح عمر، والطيب هارون، وبقية أبناء الغرة أم دماً برّة .

ربِّ ارحم الشهداء، واحفظ هذا الوطن من الشرور والمحن وجنّبه الفتن ما ظهر منها وما بطن.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى