موسى ضرار نجم هوى وقِيمٌ تبقى!!

هل غربت شمس الشرق (شرقاً)!!

يوسف عبدالمنان

(1)

يجلسون في الساحة الممتدة ما بين فندق أمينة ومعطم شعبي أطلق عليه صاحبه مطعم “هيا”، يحتسون القهوة بعد كل ساعة.. في الأمسيات الخرطومية.. وعند الصباح الباكر ينهضون مبكرين حيث يكابدون سبل كسب العيش في واقع شديد القسوة على أمثالهم من القادمين قسراً من الأرياف البعيدة.. يتحدثون لغتهم البجاوية وهم أشتات منابت.. وتتعدد ألسنتهم ومشاعرهم موحدة.. بينهم البرلماني السابق والوزير الذي انتهى ربيع أيامه في السلطة.. والحزب المنتظر وما بدل تبديلاً.. إنهم سكان شرق السودان أو “الجالية البجاوية” في الخرطوم يحدقون في المستقبل بلا أمل..

وقديماً كان أبو آمنة حامد يمد لسانه ساخراً من حكومات السودان التي تنظر للشرق من خلال مصالحها.. في عيون الشباب “قلق” وإحساس بالخوف من الذي يجري.. ومن يقرأ التاريخ الحديث ويتأمل أحداثه ويبحث عن إنسان شرق السودان في الدولة الحديثة لن يجد إلا نخبة من المثقفين تم “استيعابهم” في وظائف إدارية وتنفيذية بعيدة عن عصب وقلب وعظم الدولة الحديثة.. وظل الإخفاق التاريخي في “إنصاف” الشرق قضية شغلت محمد عبد الجواد.. ومحمد عثمان كجراي.. ومحمد أوشيك هدل، وعبد الله ابوفاطمة وإيلا.. وكبيرهم وكبيرنا وكبير السودان الراحل موسى حسين ضرار الذي ما ذكر اسمه إلا “والشجى يبعث الشجى” كما قال الشاعر متمم بن نويرة الذي كان يبكي كل قبر رآه لأنه يذكره بأخيه القتيل مالك بن نويرة.. ومثلي كلما رأى جمعاً من أهل الشرق بثيابهم البيضاء وقلوبهم الصافية.. وصدق تعبيرهم ومباشرة أقوالهم تذكر ذلك الحوار الذي ورد في قصيدة بن نويرة..

فقال مخاطباً رفيقه

أتبكي كل قبر رأيته

لميت ثوى بين اللوى والدكادك

فقلت له الشجى يبعث الشجى

فدعني هذا كله قبر مالك..

وتذكر الشيخ الوقور الراحل موسى حسين ضرار.. سكتت عنه الأقلام يوم رحيله عن الدنيا وقد ترك إرثاً وتاريخاً وحفر عميقاً في وجدان هذه الأمة.. كان تجريدياً في لغته الأصولية مثل الغمام الشاطبي وكان عملياً في تعاطيه مع الحياة العامة.. وتظل رحلته في النصف الثاني من تسعينات القرن الماضي لجنوب البحر الأحمر محفورة في الذاكرة وخالدة نجترها في الليالي الكالحات..

(2)

منذ الصباح بدأت السيارات التي أعدت لرحلة شاقة لجنوب البحر الأحمر.. السائقون الأربعة عقدوا العزم على إنجاز المهمة.. الشيخ موسى حسين ضرار كان سعيداً بزيارة منطقة نفوذه السياسي والقبلي، والرجل قبل أن تضعه في مقام شيوخ الحركة الإسلامية وكانوا ثلاثة ينادون زعيم الحركة “بحسن الترابي مجرد الاسم من صفة الشيخ والدكتور.. أولهم يسن عمر الإمام وثانيهم موسى حسين ضرار، وثالثهم إبراهيم السنوسي أصغرهم عمراً وأقربهم لقلب الترابي.. وموسى حسين ضرار يمثل تلاقح جينات البني عامر “والحضارمة” أي سكان اليمن الأصليين الحضارمة أي العرب القحطانيين الذين سكنوا منطقة حضرموت.. ويباهي موسى حسين ضرار بإسلامه وحركته أكثر من مباهاته بأصوله التي تمتد للدولة “القريشية”، والتي يقول المؤرخ المصري د. خليل إبراهيم إنها بدأت بانتقال الخلافة من سيدنا عمر إلى سيدنا عثمان بن عفان.. وما قصة المحكمين لاختيار الخليفة، وهم جميعاً من القريشيين وليس من بينهم من يمثل الأوس والخزرج رغم أن الأوس والخزرج مهاجرون وأنصار وانتهت ديمقراطية قريش باختيار الخليفة عثمان بن عفان بأغلبية الصحابة المختارين للتحكيم بما في ذلك الصحابي عبد الله بن عمر، وانتقلت الخلافة إلى الأمويين، وهو انتقال مكاني أيضاً بأن أصبحت دمشق هي عاصمة الدولة وانتقال سياسي في ذات الوقت..

تلك أحداث تاريخية بعيدة وقراءات في دفاتر مفتوحة، لكن الهجرات إلى منطقة البحر الأحمر جعلتها ملتقى حضارات النيل القديمة وحضارات الهضبة الأثيوبية وحضارات العرب العابرة للمياه والبحار..

ولكن موسى حسين ضرار القائد “العقائدي” الصارم، لم ترق له شعارات عبد الناصر و”الناصرية” وساءه ما فعله الزعيم العربي الشهير بالإسلاميين.. كان موسى ضرار “بدوياً” ولكنه فقيه وعالم في اللغة ومبدئياً لا يساوم ولا يجد حرجاً في التعبير عما يؤمن به وبطريقته المباشرة.. حينما جرت انتخابات 1965م فاز بدائرة بورتسودان الجنوبية، وهي مناطق عقيق وجنوب طوكر التي يقطنها البني عامر وبعض من الهدندوة والحضارمة، وفاز موسى حسين ضرار بإرث الأسرة وعطائه ومبدئيته، وعند زيارة عبد الناصر وكان رئيساً يهرع الرجال لمصافحته والتقرب إليه تم اختيار موسى حسين ضرار كزعيم قبلي يمثل إلى جانب ناظر الهدندوة والحباب والأمرأر والشكرية والبني عامر ليقف في الصف لمصافحة عبد الناصر.. أضمر موسى حسين ضرار في نفسه شيئاً، ولم يُحدّث أياً من مجايليه وأصدقائه حتى لا يفقد فرصة تاريخية هبطت عليه من السماء.. عند بدء مفاصحة الرئيس عبد الناصر لزعماء القبائل في المطار.. كان الرئيس الراحل إسماعيل الأزهري يتولى التعريف بزعماء العشائر والقبائل، ولكن عندما مد عبد الناصر يده لموسى حسين ضرار تفاجأ بالرجل قصير القامة ذي البشرة الأقرب لعرب اليمن يسحب يده ويرفض مصافحة عبد الناصر بكل ثقله وبريقه، بل قال ضرار عبارة جعلت الرئيس المصري يضطرب ويتذكر أن أرواحاً عديدة في عنقه سيسأل عنها يوم الحساب، قال ضرار “لن أصافحك لأن الأيادي الملطخة بدماء سيد قطب لا تستحق المصافحة”!! اضطرب رجال البرتوكول وساد مرج وخوف وفزع ودهشة إلا موسى حسين ضرار، مشى واثق الخطى راضياً.. إلى دار الراحل حسن الترابي وقبل أن يبلغ الدار تلك حدثته نفسه عن الفصل بين المبادئ الثابتة التي لا تتزحزح وبين المواقف العابرة، وضرار ممن كان ينشد قصائد هاشم الرفاعي عن بسالة الإسلاميين في مواجهة مقاصل الموت في زنازين عبد الناصر وبيوت أشباح “صلاح نصر” أو زائر الليل الغريب..

تلك حقبة سوداء في تاريخ مصر شهدت بشاعات في الموت والإقصاء مثل حقبة السيسي الحالية وعار رابعة العدوية لا يزال وسيظل يلاحق من كان وراءه..

(3)

الكتابة عن الرحلة التاريخية بين بورتسودان وجنوب طوكر وقرورة وساحل البحر لا تمثل في هذه الأيام انصرافاً عن الواقع الشاخص بأحداثه ومآلات المستقبل المشرق للوطن، لأن قيم الديمقراطية العائدة كفيلة وحدها بشفاء الوطن من الجراحات التي أقعدت به سنين طويلة.. وربما قال قائل ما المناسبة والحديث عن موسى ضرار بلا مقدمات؟؟ فهل سأل هؤلاء د. منصور خالد عن كتاباته المنصفة لرجل اسمه عبد الله بك خليل؟؟ وهل سأل هؤلاء الشيخ راشد الغنوشي زعيم حركة النهضة التونسية الحديثة وهو يمد قلمه للسلفيين ويقول “ما الذي يهمنا نحن المسلمين المتخلفين المهزومين وبلادنا تتقاذفها مختلف التيارات الثقافية ومجتمعنا يمر بأخطر التناقضات والأزمات أن نعرف موقف المعتزلة من صفات الله، وهل هي قائمة بذاته أم هي زائدة عن الذات، ثم موقف ابن رشد من الكون هل هو قديم أم محدث، ورأي بن سينا في النفس وخلودها وموقف الأشعري من الكسب”.

قبل أن نبتعد قليلاً من بورتسودان وعبد الله أبوفاطمة الرجل النقي يحدثنا عن تجربة عثمان دقنة لماذا سقطت المهدية؟؟ سألت الشيخ موسى ضرار هل ستعود الديمقراطية التعددية مرة أخرى وتظلل سماء بلادنا، ويتم إطلاق قيود الأقلام وإلغاء الحظر المفروض على الأحزاب وهل وهل.. أسئلة عديدة قذفت بها في وجه الشيخ موسى حسين ضرار، وحينها كان الحديث عن الديمقراطية “خيانة” بدعوى أنها خيانة لدماء الشهداء المتناثرة في أرض الجنوب قبل أن تتخلى الدولة المركزية عن ثلث أرضها.. وتبيع السلام بالأرض والشريعة بالسلطة.. قال الشيخ ضرار: لن تنهض دولة في مناخ الكبت وقمع الرأي، ولن تزدهر الفنون في ظل الرقباء من وزارة الداخلية، ولكن الديمقراطية لها شروط وجوب إذا لم تتوحد الأمة على ثوابت و”تصالحت” أغلبيتها مع نفسها تبقى الديمقراطية “ترفاً” في القول..

أشار موسى ضرار لقطعان الإبل التي أنهكها الجوع وجرد العطش عظامها من اللحم.. والبدو ينتظرون رحمة السماء بهطول أمطار الشتاء.. بعد أن أمسكت السماء ماءها في فصل الخريف.. السيارة اللاندكروزر تسبح في رمال ممتدة.. والرياح تثير الغبار الكثيف ومبرد الهواء يبدو عاجزاً عن “تبريد” السيارة.. توقفت السيارة في مقهى صغير كاستراحة قبل متابعة السفر إلى طوكر.. تقدم شاب دون العشرين عاماً وقدم ماء تحسبه “عصير فراولة” في بادئ الأمر قبل أن تكتشف “عكر” الماء وتلوثه وسأل الشاب محمد إدريس الناشط في اتحاد الشباب عن صحة وضوء من استخدم ماء تغير طعمه ولونه..

قال شيخ سبعيني: هل لا تزال الخرطوم تسيطر علينا؟؟ انتبه الجميع إلى الشيخ الذي وضع سفة تمباك في أسفل شفتيه وتثاءب طويلاً ثم قال إن الحرب في الجنوب من أجل الحكم الذاتي وحق المواطنين في اختيار حكامهم.. أما نحن في الشرق انتظرنا الإنصاف من الظالمين ولم نحصد إلا حالنا الراهنة”..

أمسك موسى حسين ضرار بيد الشيخ السبعيني وقدمه أستاذه في المرحلة الأولية من مؤسسي مؤتمر البجا في طوكر اعتقلته السلطات في عهد مايو مع هاشم بامكار وبعد 1985م انضم لتنظيم تحالف قوى الريف.. أما لماذا هو هنا.. في منطقة ريفية نائية تفتقر إلى الخدمات الأساسية.. ذلك حال شرق السودان من تلك الرحلة التي تنقلت قافلة الشيخ موسى ضرار إلى القرى في جنوب طوكر والمشروع الزراعي الوحيد قد بات مثل الآثار التاريخية في البركل..

أكثر من ربع قرن منذ تلك الرحلة في تخوم البحر الأحمر ولا تزال قضايا إنسان الشرق في انتظار المجهول.. جاء محمد طاهر إيلا والياً على البحر الأحمر وأحسن توظيف الموارد، ولكنه تجاهل لأسباب يعلمها هو جنوب البحر الأحمر، بينما ازدهرت بورتسودان وسنكات ودرديب وهيا وجبيت المعادن.. وعندما صعد إيلا لمنصب رئيس الوزراء شعر أهل الشرق “بإنصافهم” في آخر أيام الإنقاذ، وانصرف نظام الإنقاذ وتشكل مجلس عسكري من قادة القوات النظامية، وبطبيعة تلك القوات لا أثر لأبناء الشرق.. ولكن الفريق شمس الدين كباشي وهو من ذاق الحرمان.. والظلم.. جاء بالدكتور العميد الطاهر أبوهاجة في منصب بالقصر.. لن يكون بطبيعة الحال بديلاً لساكني القصر في السنوات الماضية إثنان من مساعدي الرئيس المهندس إبراهيم محمود حامد، وموسى محمد أحمد والوزيرة آمنة ضرار ووزير زراعة كباشي، ووزيرة دولة سمية أكد.. ووزير داخلية إبراهيم محمود وثلاثة ولاة من بورتسودان والقضارف وكسلا.. ولكن الآن في قيادة تحالف قوى الحرية والتغيير “أسامة سعيد” ليمثل الشرق إن وجد له مكان، وأسامة سعيد لن يبلغ المجلس السيادي الذي تضم عضويته (11) من قادة السودان (عسكريين ومدنيين) اتسع لمناوي من دارفور وصديق تاور ممثل حزب البعث العربي الاشتراكي.. وهو حفيد لسلاطين ومكوك النوبة.. وجده الملك أندو رحال، لكن صديق تاور شعار أمة عربية واحدة ذات رسالة خالدة؟؟ ويضم مجلس السيادة ممثلين للشمال والوسط ونخب الخرطوم من المثقفين، فهل لا يتسع المجلس بأعضائه العشرة مضاف إليهم شخصية (بوجهين) وجه مدني ووجه عسكري وأهلنا البقارة يقولون “فلان الموسى أم شقين” فهل يجد الشرق مقعداً وحيداً في المجلس السيادي، أم يخرج “صفراً معاك الواحد”!!

ربما يذهب البعض لنبذ فكرة المحاصصة “الوظائفية” ويعتبرونها من علامات التخلف والماضي الذي ولى، لكن مخاطبة قضايا الأطراف بمعزل عن المشاركة السياسية والإحساس بالمسؤولية لن يحقق مقاصد العدالة الاجتماعية والاستقرار السياسي.. فالإمام الخميني استطاع تحريك المسلمين الشيعة بمخاطبة قضاياهم وبعث فيهم الروح الثورية وطرح الأفكار العملية وأهم تلك الأفكار “ولاية الفقيه”. أما شرق السودان فإنه مطالب أهله الذين يتجمعون في المقاهي بالخرطوم في الأمسيات يجترون الماضي.. والحاضر فإنهم يرفضون في كل الأحاديث التي يرددونها جهراً فكرة إلغاء الحكم اللا مركزي والعودة للنظام المركزي القديم، وينبذون الحكم الإقليمي الذي “تركه النميري” ورحل على حد قول محمد حسين الفول وهو من قيادات خشم القربة، فإذا كان الشرق قد “احتمل” الجور مئات السنين.. فلا مكان اليوم للسلبية والسكوت عن الحقوق على طريقة الرجل السبعيني الذي تحدث للراحل موسى ضرار.. الغائب بجسده والحاضر بروحه وثوريته التي جعلته يواجه عبد الناصر ويرفض مصافحته.

تلك من سمات “عناد” وشجاعة أهل الشرق في تعبيرهم عن ما يعتقدون أنه الصواب حتى ولو وضعت سيوف الدنيا على أعناقهم فهم بالصبر قانعون وبالفيدرالية مؤمنون ولكنهم في المجلس السيادي لا وجود لهم حتى الآن..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى