خربشات الجمعة

 ( ١)

  تريزا  فتاة سمراء  تقطن أطراف المدينة  في حي يقع جنوب المدينة  نحيفة نحيلة تمشي الهوينا  شعرها قرقدي لكنها بالطبع لا يشبه من تغنت  لها زهراء الرقاشة 

أم شعيرًا  قرقد بالدهان  ما برقد  

إلا  بالبينسات  

ولكنها  قد تكون  مثل فتاة الجعلي  الذي عاش في جنوب  السودان طويلًا وتزوج  من شلكاوية وأنجب منها البنات  والبنين ولكن فجأة فرضت عليه قوانين  أسرته وتقاليد الجعليين الصارمة العودة  إلى شندي وزواج ابنت عمه التي ظلت تنتظره  طوال فترة غيابه لكن الجعلي كان قلبه معلقاً  بين فشودة والناصر وغريقاً في حب الشلكاوية التي  قاسمته مر الحياة وحلوها في إحدي الأمسيات هطلت الأمطار  قبل مغيب الشمس ولمع البرق جهة الجنوب تذكرها وقال 

ست  القرقدي  الواقف مسامير نقله  

كل  ما اتذكرك  تتبرجل علي  الخدمة  

لكن  تريزا  كانت تحب  الغناء والرقص  والموسيقى تعمل  بهمة ونشاط لنظافة  المنزل وصناعة الطعام  من السمك النيلي المقلي والمغلي،  والكسرة والعصيدة كانت ملكال مدينة  تحت زخات الرصاص وأزير الطائرات ونفحات  السلام بعد سنوات الحصار  

وصلت  المدينة  مع رفقاء الدرب  نخبة من المهندسين  والإعلاميين لإنشاء  إذاعة في ملكال منهم العزيز  عبد العزيز إبراهيم الطاهر، والأستاذ  فيصل السيد، وعادل عبد الحفيظ الزين وبشارة  الطيب أحمد بوش، صديق العمر في دروب الحياة لم نفترق  الا بعد أن ذهب متمرداً مع فصيل عبد الواحد محمد نور وتركني  هنا قاعداً في الخرطوم.  

كانت  تريزا تطرز  أيامنا بطيب المعشر  وتصنع لنفسها عالماً من الفرح  والسعادة وهي تغني مع نغمات وردي  ونور الجيلاني  

                       (  ٢) 

في ذلك  اليوم الممطر  عدنا من مقر الإذاعة  لتناول الإفطار الذي تعده  تريزا، وقد وضعت جهاز التسجيل  أمامها واختارت شريطاً للقارئ الشيخ  الراحل عبد الباسط عبد الصمد ورفعت الصوت،  وهي في نشوة تفاجأنا بتريزا وهي تستمع للقرآن  فسألها الأخ المصور الفوتوغرافي البارع محمد الطاهر  وهو من كنوز الشمال نصفه مصري والنصف الآخر سوداني مثل  بطل رواية الرجل الخراب لعبد العزيز بركة ساكن أنتِ يا تريزا  أسلمت ونحن ما عارفين ضحكت نسلم كيف يعني ؟

سألتها  ولماذا تستمعين  للقرآن؟

ضحكت  وقالت ما كلام عرب.  

فقال  لها بشارة  هذا كلام ربنا 

فقالت  مالو ما نسمع  كلام ربنا  

طلبنا  منها إعداد  الطعام لأننا  سوف نستقبل ضيفاً  مهماً سيحضر بعد قليل  إنه العقيد عادل كارلوس  أحد فرسان سلاح المظلات، وكان  حينها مديراً للعمليات برئاسة الفرقة  التي يقودها اللواء فيصل محمد سنادة، بينما  الحاكم هو العقيد قلواك دينق قرنق ونائب الوالي  منقو أجاك.  

أيام  ملكال تنساب  ذكراها ليلاً ويدمع القلب  على انفصال الجنوب الذي لم يتذوق  الشمال العافية منذ أن غادرتنا تريزا  والدمع في عينيها ينساب كالمطر.

ملكال  مدينة التربة  الطينية اللزجة  والبعض يطلق على أعالي  النيل اسم أعالي الطين عندما  وصلنا ملكال احتفت بنا المدينة  وجعل أمين عام حكومة أعالي النيل  جل همه توفير مطلوبات الاستقرار للفريق  الإعلامي، وقد بدأنا بث رسالة إذاعية من هناك  ورسالة مصورة لتلفزيون السودان نبعث بشريط الأخبار عند  وصول الطائرة العسكرية، ويتولى المساعد الراحل حبيب الله  عمر مساعدتنا في وصول الشريط والأخبار لتلفزيون السودان، وتنشر  صحيفة القوات المسلحة ما نبعث به من تقارير وأخبار، وكان رئيس تحريرها  العقيد عبد العظيم نور الدين يحثنا على نقل الأخبار الاجتماعية من زواج وأفراح  وغيرها من ضروب المنوعات، وكانت القوات المسلحة تعد عدتها لقيام متحرك نحو الناصر  وآخر باتجاه بور، وعند الأمسيات يأتينا أمين عام الحكومة فاروق جاثكوث يؤانسنا ونذهب  للمجاهدين في الكتيبة ١٠٣ نجد هناك الضو الماحي وفضل السيد أبو قصيصة، وعلي حامد، ومحمد  إدريس موسى وأبوعبيدة أحمد فضل الله، ونتسامر عن قضايا البلاد ومستقبل الجنوب، ولكن العميد مهندس  عباس عربي وهو المهندس الأول في مجموعتنا يرفض الخوض في قضايا السياسة ويؤثر الصمت وملكال تمثل  في ذلك الوقت أهمية كبيرة للحكومة والحركة الشعبية، وتمثل لنا أولى خطى السير في دروب اكتشاف الجنوب  اجتماعياً وسياسياً وثقافياً قبل أن يخذلنا الساسة وينفصل عنا ويذهب لسبيله.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى