السلام وهمسة في آذان الطرفين

بدأت مفاوضات السلام بين الحكومة الانتقالية وحركات الكفاح المسلح بجوبا عاصمة دولة جنوب السودان في ١٠/١٢/٢٠١٩ بعد رفع الجولة الأولى قبل شهرين تقريباً حيث وُقّع بين الطرفين إعلان مبادئ ويعتبر عربوناً لبناء الثقة.
من الإشارات والالتقاطات الإعلامية يحس المرء بدفء التفاوض وحميمية اللقاءات بين الأطراف، وهي حركات الكفاح ومندوبو الحكومة، عكس الشد والجذب الذي كان يسود عندما كانت تفاوض الحركات الحكومة المبادة، وهذا شيء طبيعي ومتوقع على اعتبار أن الجميع أبطال عهد جديد بزغ بالحرية والعدالة. ورغم ذلك فإن الدورة التفاوضية الحالية شابها قليلٌ من التوتّر بعد الظهور الكثيف لقيادات الحرية والتغيير في جوبا عكس الجولة الماضية التي كان فيها مسؤولو الحكومة في السيادة ومجلس الوزراء. ومعروف أن التوتر سببه نكوص بل رفض قيادات الحرية والتغيير للاتفاق الذي وُقِّع في أديس أبابا مع الحركات عندما عادت للخرطوم، فاعتبر قادة الكفاح المسلح أن الحرية والتغيير أصبحت خصماً فكيف تكون حَكَماً، هذا إذا أحْسنَّا الثقة في الحرية والتغيير في أنهم قَدِموا لتقريب وجهات النظر.
التوتر الثاني، بروز عنصر الشرق في جوبا الذي بات منقسماً وكأن شمس الخلافات أشرقت في الشرق بعدما غربت في دارفور. كان المركز في الخرطوم قد شقّ دارفور عِرقيّاً ويعتقد بذلك تسهل له السيطرة على دارفور، وما درى أن بداية نهايته قد أطلّت عليه من دارفور بتلك القرارات القميئة. فهل المركز بدأ يلعب ذات الدور في الشرق ويمضي في سياسة الإنقاذ الحجِل بالرجِل ؟!! على اعتبار أي تقارُب لأهل الهامش على حساب سيطرته على حكم البلد التي حكمها قرابة الستين عاماً وجعلها عظماً يابساً بعد أن أكلها لحماً طازجاً، ودليلي على تلاعب المركز رفض الاتفاق الذي وُقع في أديس مع حركات الكفاح المسلح. هذا التوتّر بطله موسى محمد أحمد صاحب اتفاق الشرق ومن خلفه أهله الهدندوة، والأمين داود وأهله البني عامر الذي يريد شرعية من جوبا ليأتي باتفاق جديد يقوم على أنقاض اتفاق الشرق المُوقّع مع الحكومة السودانية في ٢٠٠٦.
ولقد أفصحتُ أكثر حول هذا الموضوع في مقالي الفائت ولا أزيد. وهنا أريد أن أرسل الرسائل التالية.. الأولى أرى أن التفاوض يجب أن يُحصَر في ثلاثة محاور رئيسية، وهي الترتيبات الأمنية، والمشاركة السياسية، وأخيراً “مارشال” التنمية في مناطق الصراعات حتى تلحق بالركب..
أما القضايا القومية الأخرى كالعلمانية والشريعة والفدرالية والكونفدرالية والمناهج وتغييرها وغير ذلك من القضايا القومية، فيجب أن تُترَك للمؤتمر العام الذي يؤمُّه ممثلو كل السودانيين، ويقولون قولهم القاطع في هذه القضايا الخلافية، وذات الحركات سيكون لها تمثيل فيه، لذلك هذا المؤتمر لن يقوم إلا بعد توفيق الأوضاع وتوقيع اتفاق سلام شامل لا يُقصي أحداً إلا من أبى، ونتائج هذا المؤتمر تكون مُلزمة للجميع وتكون شرعيّتُها أقوى من أن تأتي من تفاوض جانبي وخارج السودان، بل يُعطي فرصة للبعض بالتحجّج أنه لم يكن جزءاً من ذلك التفاوض الخارجي، ولذلك لن يكون مطية للآخرين للسيطرة والاستغلال والاستلاب.
الرسالة الثانية للحكومة، إن موضوع الشرق يجب أن يُناقَش بِدقّة مع أهل الشرق قبل أن يدخل حلبة تفاوض جوبا حتى ولو أدى ذلك لتأجيل هذه الجولة لعدة أيام. وأرى أن موضوع الشرق في بداية العقدة الأولى إن لم تُحَل هذه العُقدة عاجلاً فإنها ستُصبِح آجلاً عُقدة مُعقّدة تقعُد بالجميع في مِقعد مُلتهب. وأن الأمر الآن في باطن الكف لا نتهاون فيه حتى يخرج إلى ظاهر الكف وقتها ستصعُب السيطرة عليه.
الرسالة الثالثة إلى الحرية والتغيير، أقول أنتم الآن سادة الحكم وأرباب دولاب عمله. أنتم الحكام. والحاكم كما يقول أهل دارفور (دوانة) والدوانة ما بِيَردوا بيها. والدوانة هي الزير الكبير الذي يسع عدة صفائح من الماء يصعب حمله إلى مورد الماء وإلا انكسر. فكيف تذهبون إلى جوبا وعندكم فيها الذين يمثلونكم ويفاوضون باسمكم، ممكن أن يكون وفدكم هناك إذا وصلت المفاوضات إلى شبه طريق مسدود لتُنقِذوا ما يمكن إنقاذه.
على العموم أهمس في آذان الجميع وأقول: نحن الآن في حافة أن نكون أو لا نكون، وهذه المرحلة الحرجة تَتَطلَّب الحِكمة والحِنكة والدِّربة والتسامُح والتنازُل ليس ذلك من ضَعف بل من قوة، قوة الضمير الحي وقوة التحمّل وقوة التوكّل وقوة الإيمان بأن التضحيات هي أغلى ما يُقدّمه القائد من أجل التواصل مع خصمه التاريخي لمصلحة الأمة جمعاء، وهو ما فصلته الآية الكريمة أن الله يأمر بالعدل والإحسان.. العدل هو أن تأخذ حقك كاملاً، والإحسان أن تتجاوز عن حقك قليلاً لكي تلتقي مع أخيك الآخر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى