غُمُوضٌ وضَبابيةٌ حول مُستقبل الاقتصاد!!

الخرطوم: جمعة عبد الله

دخلت البلاد مرحلة جديدة، يبدو من العسير التكهُّن بما ستفضي إليه من نتائج، وأثرها على الاقتصاد، ومما يزيد من حجم المخاوف المُستقبلية أن الإصلاحات الاقتصادية التي أقرّتها الحكومة المحلولة جاءت وفق اتفاقيات مع جهات خارجية والتزامات المانحين، ولكن ما حدث من تغييرات جوهرية شملت أعلى سلطة سياسية “مجلسي السيادة والوزراء”، يجعل من الصعب التكهُّن بتوقُّعات حول مدى تحسن اقتصاد البلاد من عدمه عقب هذه التغييرات يبدو رهيناً لمُعطيات عديدة بعضها لم يحن أوانه بعد، مثل إعلان التشكيل الحكومي الجديد وتحديد السِّياسات التي سيتم إنتهاجها في إدارة البلاد والاقتصاد، وتنتظر الحكومة التي سيُعلن عنها لاحقاً تحديات ثقيلة أبرزها ترتيب البيت الداخلي وتهيئة البيئة الاقتصادية وضمان توفير السلع الاستهلاكية للمواطنين، كتدابير أولية عاجلة قبل البدء في خطط الإصلاح الاقتصادي.

الاقتصاد أولاً

وشكّلت التحديات الاقتصادية، عصب الحراك الجماهيري الذي كُلِّل بالتغيير، وكانت المطالب الاقتصادية والمعيشية هي السبب الرئيسي في بروز وتنامي الأصوات الاحتجاجية، كما كان الاقتصاد هو المتأثر الأكبر بالإخفاقات التي حدثت طوال الفترة الماضية، ووصل الأزمة لحدود عجزت فيها الحكومة عن مُعالجة قضايا شُح السيولة التي لا تزال مُستمرة، علاوةً على تصاعد أسعار الصرف وما نتج عنه من تراجع احتياطي البنك المركزي من النقد الأجنبي اللازم للاستيراد.

رؤية ضبابية

وسيطرت الضبابية وعدم وضوح الرؤية على التوقعات بشأن مستقبل الاقتصاد السوداني، بُعيد استلام المؤسسة العسكرية على مقاليد السلطة وعزل الرئيس البشير وحل حكومته السابقة وجميع طواقمها كلياً، فيما أغلقت محال تجارية بالأسواق أبوابها اليوم، دُون تأثير على معاش المواطن حيث استمر عمل محال السلع الاستهلاكية بالأحياء السكنية وأسواق المحليات ومحال بيع الخضروات والمخابز ومحطات الوقود كالمُعتاد.

ويقول مراقبون إن توقع مستقبل الاقتصاد السوداني –  في الوقت الحالي –  خطوة سابقة لأوانها عَلاوَةً على كونها تفتقر للمنطقية والموضوعية، مُشيرين إلى أنّ الأمر رهينٌ بمعرفة ما ستفعله الحكومة العسكرية الجديدة وهي بدورها لم تُشكّل بعد، ما يعني مزيداً من الانتظار لوضوح الرؤية.

فيما يقول آخرون إنّ محض حدوث التغيير يعني الإدراك التام بحجم الأزمة التي تُعانيها البلاد، وتُعزِّز بعض فقرات البيان الذي تلاه رئيس المجلس الانتقالي في حدوث تحسنٍ ولو نسبي في الوضع الاقتصادي، ومن ذلك حل الحكومة السابقة على ما تحويه من ترهُّل في عدد الدستوريين ومُخصّصاتهم الباهظة التي يُمكن الاستفادة منها في خدمة المواطن، والثابت أن الصرف الحكومي كان ولسنواتٍ طويلةٍ يستنزف الخزينة العامة بمبالغ كبيرة دون أن تنعكس على معاش المواطن.

رغمًا عن كل تلك المُعطيات، يبدو من العسير توقُّع ما يحدث بالأسواق خلال الفترة القليلة المُقبلة، وإن كانت توقُّعات التحسُّن والتعافي الاقتصادي السريع مُستبعدة لكونها تستلزم وقتاً، فإنّ المخاوف تذهب في الاِتّجاه الآخر، نُدرة السلع أو ارتفاع أسعارها لأكثر مما هي مُرتفعة الآن.

توفر نسبي للسلع

ظاهرياً، لم تبرز بشكلٍ ملموسٍ أيِّ مُعطيات تُشير لندرة أو انعدام للسلع الحياتية اليومية، وإن كانت التخوُّفات حاضرة من حدوث تطورات مُرتقبة تؤدي لانفلات جديد في الأسواق بسبب الفراغ الحكومي الناتج عن حل جميع المؤسسات الحكومية المعنية بتوفير السلع الاستهلاكية، وفي أيسر الأحوال السلع مع زيادات أسعارها في وضعٍ لا يجد فيه المُواطن المال للشراء.

وكشفت جولة لـ”الصيحة” ببعض محليات العاصمة وأسواقها، عن استمرار محال تجارية توفر السلع الاستهلاكية كالمُعتاد، كما واصل عددٌ من محطات الخدمة البترولية والمخابز عملها دُون توقُّف، وإن شهدت بعضها طوابير لم تتجاوز ما كان يحدث بالفعل خلال أزمتي الخُبز والوقود طوال الأشهر الماضية.

وبعيداً عن القرارات الأخيرة القاضية بحل الحكومة وأثرها على السوق والحركة التجارية، تشهد البلاد منذ عدة أشهر، أزمة اقتصادية غير منكورة، تمثّلت أبرز انعكاساتها في تراجع قيمة العُملة المحلية وارتفاع التضخم وارتفاع الأسعار الذي شمل كل السلع دُون استثناء مع تردٍ اقتصادي سَبّب ركوداً بائناً في النشاط التجاري، مما أدى لإرغام المواطنين على حصر احتياجاتهم في خيارات أقل تشمل السلع الأساسية أولاً.

وسيطر الركود وغلاء الأسعار على أسواق الخرطوم، وهو وضع ليس جديداً لكنه تزامن مع ظروف مُعقّدة تمر بها البلاد، حيث أدى الاحتقان السياسي واستمرار الفراغ الحكومي لصعوبة قراءة والتنبؤ بما ستؤول إليه الأمور قبل تحقُّق الاستقرار السياسي، فوجود حكومة مُستقرة ضرورة لازمة للتحسُّن الاقتصادي، كما تباطأت أنشطة الأعمال مع ترقُّب وضوح اتّجاه سياسة الاستيراد والنقد الأجنبي ولا يزال الاقتصاد يرزح أيضاً تحت إرث المشكلات السَّابقة.

أسْعارٌ مُرتفعةٌ

وكشفت جولة لـ”الصيحة” أمس بعددٍ من أسواق الولاية, عَن قِلّة مُرتادي الأسواق خلاف المُستلزمات الاستهلاكية، وأغلق عدد من المحال التجارية أبوابها بسبب قلة الإقبال، مع تبايُن في الأسعار, حيث شهد عددُ من السلع زيادات جديدة في السعر مثل السكر واللحوم الحمراء والبيضاء ومنتجات الدواجن والزيوت، وارتفعت أسعار الخضروات بشكلٍ طفيفٍ وعام، ولا تزال السلع متوفرة بالأسواق والمتاجر وإن سادت مخاوف من حُدوث نُدرة وشُح في بعض السلع حال تطاول أمد الفراغ الحكومي.

ويقول التاجر عبد الباقي الشيخ حسين، صاحب محل إجمالي بالخرطوم، إن ركود السوق “ليس جديداً” رغم زيادة حِدّة الركود بسبب الاحتجاجات، وقال إن أسباب الركود متعددة، موضحاً أن غياب الكاش يتصدّر هذه الأسباب، بالإضافة إلى الوضع المعيشي الذي يُواجهه أغلبية المُستهلكين، مُشيراً إلى أنّ غالب المتوافدين على الشراء يبتغون السلع الأساسية التي تنحصر في السكر والدقيق والزيوت وبعض الأغراض المنزلية اليومية.

وأرجع أحد التاجر، الجنيد يوسف، أسباب ركود السوق وتراجع القوة الشرائية، إلى قلة الكاش بين أيدي المستهلكين، وقال لـ”الصيحة”, إن أزمة السيولة أضرت كثيراً بالقوة الشرائية, موضحاً ان هناك اسبابا اخرى منها أزمة الوقود التي كان لها دور في زيادة تكاليف النقل الداخلي, كما تزيد من تكاليف الترحيل من مواقع الإنتاج حتى الأسواق.
وأرجع أحد التجار، فضّل حجب هويته، أسباب زيادة الأسعار لتزايُد تكاليف نقل وترحيل البضائع بين المخازن والمتاجر, مشيراً إلى أنّ أزمة الوقود لها دورٌ في زيادة تكاليف النقل الداخلي كما تزيد من تكاليف الترحيل من مواقع الإنتاج حتى الأسواق.

استقرار سعر الصَّرف

وفي سوق النقد الأجنبي, لم تتغيّر المعطيات كثيراً، فبقي الدولار مستقراً عند 450 جنيها، وهو نفس السعر قبل التغييرات السياسية، ولكن متعاملون بالسوق أكدوا لـ”الصيحة” عدم تفضيلهم البيع بالشيك نظراً لصعوبة تسييل الشيكات في الظروف الحالية, مشيرين لوجود طلب متوسط على العملات العربية لورود تحويلات خارج النظام المصرفي يقوم أصحابها ببيعها في السوق المُوازي، حيث تنشط عمليات التحويل بكثرة في العملات الخليجية، وقالوا إنّ تزايد احتمالات تطور الأحداث في البلاد دفع بعض المواطنين للاحتفاظ بما يملكون من عُملات أجنبية لتسييلها عند الحاجة.

وقال حميدان عبد الله، وهو تاجر في سوق العملات بالخرطوم، إن سعر الدولار 450 جنيهاً والريال السعودي 122 جنيهاً، موضحاً أن هذه الأسعار ظلت كما هي.

أزمة السُّيولة

وبرزت للسطح أزمة سُيولة وغياب الكاش مع عدم تغذية الصرافات الآلية بالمال خلال الأيام الأخيرة، وانتشرت ظاهرة تحويل المال من البطاقات المصرفية والحسابات, حيث لا يزال كثير من البنوك خارج الخدمة وسط تأكيدات من تجمع المصرفيين بالإضراب الشامل والعصيان.

وتكبّد تجار المستلزمات الكمالية, خسائر طائلة بسبب توقف تجارتهم كلياً خلال الأسبوع الأخير…

وقال أيمن الأمير تاجر ملابس بسوق الكلاكلة اللفة، إن خسائرهم لا تُحصى, مُشيراً إلى أن بعض التجار مواجهون بديون ضخمة عبارة عن مبالغ جلب البضائع التي لم تمكِّنهم الظروف من تصريفها كالمُعتاد، وقال إنهم في حيرة من أمرهم, حيث تتكدّس محالهم بكميات كبيرة من البضائع ولا وجود لمشترين.

وقريباً منه يقول صاحب محل أثاثات, إن الفترة الحالية تخلو تماماً من المشترين, لافتاً الى أن بعض التجار عجز عن توفير جُزءٍ من تكاليف المصنعية للأثاثات المُصنّعة.

دَعوةٌ للإصلاح

وحذّرت خبيرة الاقتصادية، د. إيناس إبراهيم من خطورة تجاهُل الوضع الاقتصادي الحالي، وقالت في حديث لـ”الصيحة”، إنّ الظروف الحالية مُعقّدة وخطيرة أكثر من أيِّ وقتٍ مضى، وأكّدت أهمية التوافق السياسي أولاً ثم تكوين حكومة تقوم بإجراء إصلاحات اقتصادية وسياسية حقيقية تُشكِّل أرضية لإصلاح الوضع المعيشي للمواطن وتجنُّب انفلات الأوضاع في حال استمرار الأزمة هكذا دون حلول جذرية، وقالت إن البيئة الاقتصادية الحالية لا تُساعد على تحقيق أدنى طموحات المواطنين، ودعت لأن تشمل الإصلاحات المُقترحة، التركيز على المشروعات الإنتاجية خاصّةً الزراعة وما يتّصل بها من الصناعات التحويلية ورفع حجم الصادرات وتذليل العقبات الحكومية أمام المُنتجين, والتي قالت إنها تتمثل في تعدُّد الرسوم والجبايات لحد أخرج الكثيرين من دائرة الإنتاج لصعوبة العمل في ظل أوضاع غير مُحفِّزة للإنتاج وكثيراً ما يتكبّدون الخسائر.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى