فضل الله رابح يكتب.. حكايات من حلتنا.. الزمن علّمنا حاجات!

رغم أنه لا شيء يبقى على حاله، إلا أن ظل خيرات الطفولة البريئة لا يموت في الذاكرة.. يوم من أيام الصبا المبكر أمرتني والدتي متعها الله بالصحة والعافية بتسليم الغنم (ماعز البيت) إلى الراعي  (حامد جبريل)، فتغاتت عليّ بحجة أنني تأخرت عليه.. جمع هو غنم القرية وغادر إلى السرحة مسرعًا حتى لا ألحق به، ومن ثم يورطني بها وقد كان.. صعدت القوز الأول ونزلت والقوز الثاني ونزلت ولم ألحق به واختفى عن نظري ظللت أركض خلف الماعز وأبكي وأحتج.. كانت ورطة حيث انتشرت الماعز في الفلوات وتشتت مجموعات واختفت عن بصري إلا مجموعة محدودة ظللت أتتبع أثرها وهي من النوع الذي يطلق عليه بـ (الماعز النائبة) أي الحوامة، ذهبت تلك الماعز مباشرة إلى (فولاية) ود الحاج وفولاية اسم محلي لمزرعة الفول السوداني، فالتهمت الأغنام المزرعة التابعة لـ (محمد الحاج)، فغضب مني وانتهرني وهربت من.. أخذ الغنم إلى زريبة هوامل قرية جلاب ومعه نماذج من آثار شجيرات الفول المدمرة والممزقة للتدليل على حجم الخسائر والخراب.. أدخل ود الحاج الماعز الزريبة ووضع المعروضات في راكوبة الشيخ وذهب إلى حاله.. جاء ود الحاج إلى القرية ولمعات الغضب تظهر على وجهه من أثر أوجاع الخسار والدمار الذي أحدثته الماعز على فوله الذي كان حينها يحمل زهوراً جميلة صفراء فاقع لونها تسمى محليا (النوار) وعلى وشك الثمر.. أخبر ود الحاج أمي بأن الغنم خسرت له مزرعته وذهب بها الى زريبة الهوامل، وقال إنه اشترط بعدم إطلاقها إلا بعد إقامة خسارة لأن الذي جرى له إهمال وعدم مسئولية.. كان الخوف يسيطر علي، لكن لا أحد تهيج علي ويضربني.. ذهبت لجنة القرية الشعبية المعنية بجبر الأضرار وإقامة التسويات في مثل هذه الحالات وحددت حجم الخسار واقترحت قيمة التعويض المادي الذي تراضى عليه الجميع ثم عاد الأجاويد واحتسوا الشاي والبن براكوبة ود الحاج ونظراتهم تتولد بريقاً إنسانياً وتسامحاً وكلمات المطايبة تتراكم بلا حروف بأنهم سددوا وقاربوا بين الجميع حتى تمت التسوية بروح ودية حفظت تماسك المجتمع وقوته.. لمحت ضعفاً لذيذاً في وجه ود الحاج الذي كان غاضباً في البداية لكنه حين سماعه بعض عبارات الأجاويد هدأ نفسه ولعن الشيطان فخرج منه صوت خافت قال فيه إنه لن يستلم مليماً من قيمة خسار زراعته لأنه لن يفيده بشيء لكنه (فرشها عرفا) أي حفظها بشرط إذا تكرر الأمر سيقوم بأخذ حقه القديم والجديد فوافق الجميع بشروطه.. لم يتبق لود الحاج إلا أن يقول سأدفع رسوم وغرامات زريبة الهوامل.. تضاحك الحضور كثيراً بأصواتهم العميقة التي أزالت عن ود الحاج أوجاع الخسائر وعني هم الخوف من العقوبة وعن أبي هم دفع قيمة الخسار وحرج الإهمال الذي تضرر منه ابن أخيه وجاره في المنزل والزراعة.. عدنا إلى بيتنا الذي يجاور منزل ود الحاج من ناحية الجنوب بعد أن أخذ ود الحاج وأعضاء اللجنة منا اعترافًا بالخطأ والاعتذار عنه والالتزام بعدم تكراره.. ذهب والدي رحمة الله عليه وهو مرهقاً إلى قرية (جلاب) إحدى ضواحي صقع الجمل، وأخذ الماعز ورفع أكف الدعاء لله والجميع على سلامة غنمه ثم همس في أذن صاحب الزريبة شاكرًا على حفظ الماشية وعلفها والاهتمام وعدم الإهمال فيها فاستقبل الرجل شكر والدي بابتسامة حانية وهو يردد ما يشبه التعنيف: (ما تتوعدوا الإهمال والراعي دا كان ما جادي غيروه بآخر).. رسم الرجل في وجوهنا ابتسامة فرح بإخلاصه في عمله وحفظ (البهايم) ورعايتها بصدق.. ابتسامة فك بها عنا كآبة وتعب ذلك اليوم الطويل..

نواصل إن شاء الله تعالى..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى