إجازة قسرية قصيرة

ترغمك تصاريف الأقـــــدار على الغياب القسري والإقلاع عن عاداتك الحميدة التي تُمارسها بشغفٍ. وتظل في غيابك هذا تتطلّع للعودة والترقُّب يحفك من كل الجوانب ويسكنك التُّوق ويلفك الحنين الذي لا يهدأ.

هكذا.. كان لِزاماً عليّ أن أتنحى عن مقامي هذا لبعض الوقت وأتفرّغ لمُمارسة أمومتي لأسبابٍ قاهرةٍ تزامنت مع الإقامة الجبرية للوالدة العزيزة وهي طريحة الفراش الأبيض إثر علةٍ عارضةٍ وقاسيةٍ استدعت مِنّا السفر سعياً وراء العلاج الناجع الذي استعصى علينا داخل حُدُود الوطن العزيز الذي يُعاني بدوره من الأمراض المُزمنة التي تستوجب التّبرُّؤ أو العلاج الكيميائي.

كانت إجازة قسرية قصيرة سَمَحت لي بالتأمُّل والمُتابعة والتّمحيص واختبار العديد من تفاصيل الحياة التي كنت أرقبها من بعيدٍ بشكل عملي مباشر. وليس من عايش الأزمات أبداً كمن ظلّ يستمع إليها كحكاياتٍ يجمعها من أفواه الآخرين حتى وإن عظمت.

إنّ التّجارب الفعلية تضعك أمام اختبارات حَقيقيّة تكتشف من خلالها مكامن ضعفك وقُوتك.. وتتعرّف أكثر على نفسك وترغمك على قياس مفاهيمك ومبادئك ومُعتقداتك الحياتية التي ظللت لسنوات ترفعها كشعارات ولا تُمارسها. وهذا للأسف النّهج السَّائد الآن على ساحات التّواصُل الاجتماعي ومُبالغاتها وزيفها وكونها كانت تقتات من دمنا وأعصابنا، وتهدر أيّامنا الغالية في فراغها العريض.

خلال إجازتي هذه تنقّلت بجسدي بين الدول, وتَسَلّلت بخيالي وأفكاري كذلك.. تعلّمت الكثير من خلال المشاهد التي عبرت أمام عيوني.. وأخرجت ما بداخلي واستعرضته أمام ناظري لأبدأ في تفقُّد العالم بشكلٍ أعمق.

العديد من الأحداث الكبيرة جداً تفاقمت خلال الفترة السّابقة.. أحداث جوهرية مُؤثِّرة ذات أبعادٍ سياسيةٍ عارمةٍ.. ولكني اكتفيت فقط بالتركيز على تلك الأبعاد الاجتماعية لأثبت لنفسي على الأقل صدق حَدسي في ما ذهبت إليه يوماً، وأن أعرب في كتاباتٍ سابقةٍ عن قلقي الكبير تجاه التّغييرات التي طَالَت الناس عُمُومَاً.. وتلك الانحرافات النفسية والسُّلوكية التي انتظمت بعض الفئات بعينها. والصّادق مع نفسه سيرى بوضوحٍ ما ظللنا نُمارسه ضد بعضنا البعض مُؤخّراً من تجريمٍ وتنمُّرٍ وإساءاتٍ تعكس بوضوحٍ مُخيفٍ فساد بعض النفوس الذي لا يقل تَأثيراً عن فساد القادة والسَّاسة والتُّجّار.

المُهم.. أعود اليوم لمُعانقة هذه المِسَاحة بالكثير من الشوق والاندياح.. وأقرئكم السَّلام والمَودّة والاحترام.. وأشكر عُمُوم أهل (الصيحة) على سعة الصدر والتّعاوُن وتقدير الأوضاع والظروف التي تكالبت عليّ جميعها في توقيتٍ واحدٍ والحمد لله وتجدوني مُمتنة لهم وبشدة..

أعود مَسكونةً بالارتباك والقلق.. وأشعر بالتقصير والأسى.. فمن مساوئ الغياب أنّه يجعلك ويجعل الآخرين من حولك يعتادونه.. فتخرج لا شُعُورياً من منظومة التفاصيل اليومية الحَميمة.. لهذا استميحكم عذراً في الصبر على الفجوة الداخلية التي أعانيها.. فإحساسي الآن كصاحب مَركبةٍ ما.. بدأ في تَعلُّم القيادة.. ويمضي بها  في دروب الحي الترابية.. على أمل أن يتجاوز (الدقداق) ويركب (الزلط) في القريب العاجل.

تلويح:

عَوداً حَميداً مُستطاباً..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى