منى أبوزيد تكتب : حكاية لها ما بعدها..!

16 ابريل 2022م 

“ذكريات كل إنسان هي أدبه الخاص”.. ألدوس هكسلي..!

كَانت أمِّي تَعمل مُدرِّسة لغة عربية بمدرسة ابتدائية، وعندما أنهيت دراستي بالصف الثاني الابتدائي انتقلنا للإقامة والدراسة بالسعودية، ولكن قبيل ذلك بأشهرٍ تم نقل أمِّي للعمل في مدرسة أولاد، فكان من الطبيعي – أو الجائز نوعاً ما – أن انتقل معها، وهناك كنت الطالبة الوحيدة في مدرسة كلها طلاب ذكور، يلبسون القمصان و”الشورتات”، ويخرجون سيقانهم النحيلة للهواء الطلق، بينما كنت ألبس بنطالاً من الجينز عِوضاً عن “الشورت” مُراعاة لمُقتضيات اختلاف النوع..!

هناك في مدرسة الأولاد وقفتُ حائرةً أمام أول امتحان في التعامل مع الجنس الآخر، فإما أن أبدو “كما كنت في داخلي” فتاة خجولة ضعيفة فأصبح مثار سخرية ومصدر تسلية – كما حدث في الأيام الأولى – وإما أن يكون رد الهجوم بمثله هو خير وسيلة لدفاعي، وقد كان. ولم يكن ذلك شراً منِّي بقدر ما كان خوفاً..!

في تلك المرحلة تعلّمت درساً جندرياً أصيلاً مفاده أن الذكور في أي سلالة يهابون الأنثى القوية – أو على الأقل يتركونها في حالها – وقد أسّست مرحلة “مدرسة الأولاد” تلك لفعل ثوري مُهم جداً في حياتي “طبيعة موقفي من الرجل، وخُصُوصية نظرتي لسلوكه العام، وصرامة أحكامي على مواطن ضعفه”. وهكذا، ظللت أتبع سياسة “نابليون” في معاملة جميع ذكور المدرسة ما عدا صديقي الوحيد أحمد..!

أحمد ود فاطنة “الذي كان طفلاً ذكياً، شديد الحساسية، ضعيف البنية” هو أصغر أفراد أسرة فقيرة كانت تحرس المدرسة وتقيم “بقُطِّيَة صغيرة” في حوشها الكبير. ولسبب لا أدريه كنت أشعر بعطف شديد وأمومة غامرة تجاه أحمد، بل واعتبر نفسي مسؤولة عنه رغم كوننا أنداداً ندرس في ذات الفصل، إلى درجة أن أحداً من أشرار الأولاد لم يكن يجرؤ على مضايقته وهو في معيَّتي..!

ذات نهار طويل، قائظ، كنت بانتظار أمِّي على باب المدرسة عندما سألني أحمد “انتو غداكم الليلة شنو”؟. فقلت له على الفور – بتلقائية الأطفال التي لا تخالطها دهشة – “ملوخية ورز”. سبب توافر الإجابة هو أن أمِّي كانت تطبخ أغلب طعام الأسبوع وتحفظه في الثلاجة، أما والدي فقد كان مُغترباً وكانت بقية أسرتنا تُوشك أن تلحق به، وكنا نحن صغاراً لا نفهم كثيراً في مسألة “وش الملاح”. ثم جاء دوري وسألت أحمد ذات السؤال، فأجابني قائلاً بذات التلقائية الطفولية “نحن ما عندنا ملاح”..!

بقيت طوال طريق عودتنا من المدرسة حزينة صامتة كالأسماك، وما أن وضعت أمِّي أمامنا صينية الغداء حتى انهمرت دموعي. ظللت أبكي وأرجوها أن نأخذ حَلّة ملاحنا ونذهب بها إلى أسرة أحمد في حوش المدرسة لنتغدّى معهم. ولأن التنفيذ كان مُستحيلاً بحسابات الكبار رفضتُ أن أمس ملوخية أمِّي وأرزها، تضامناً مع حرمان صديقي أحمد. ثم تطوّرت عاطفة الأمومة الجياشة إلى تضحيات طفولية “كنت أتظاهر بالشبع وأعطيه الساندويتش الخاص بي وأذهب بعدها للتطفل على فتات مائدة المُدرِّسات بجوار أمِّي”..!

إلى أن جاء أكثر أيام طفولتي حُزناً وبكاءً، سافر أحمد في الإجازة السنوية مع أسرته إلى بورتسودان، وظللت ألعب وحدي بانتظار عودته، لكنني لم أقابله ثانية أبداً، ولم أسمع عنه شيئاً حتى اليوم. رحل صديقي الصغير إلى الأبد، وغاب في زحام الحياة بلا وداع. لكنه بقي في ذاكرتي كما هو، صغيراً، لطيفاً، ضعيفاً، وبحاجةٍ دوماً إلى حماية شخصٍ ما..!

 

 

 

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى