الإدارة الأهلية لماذا؟

هذه ليست المرة الأولى في تاريخ البلاد، تتصدى الإدارة الأهلية لمهمة وطنية جليلة المقصد، وتتحرك لتحقيق الوفاق الوطني، وتملأ الفراغ السياسي الذي خلّفته الأحزاب السياسية باحترابها وتصارُعها وتكالُبها على السلطة وانغماسها في معاركها التي لا تفيد، وسبق للإدارة الأهلية، وهي تمثل مجتمع السودان بقبائله وعشائره وقِواه الحية أن لعبت دورها في الحفاظ على استقرار البلاد وتماسكها الداخلي، وكانت العواصم من القواصم، خلال كل الانعطافات الحادة التي تعرضت لها البلاد، ولا يمكن أن تتأخر عن موعدها إذا دعا الداعي إلى التكاتُف والوحدة والسلام، فهذا هو واجبها الملقى على عواتق زعمائها ورجالاتها، وهو المطلوب منهم دائمًا، فليس مستغرباً أبداً ولا جديداً هذا الموقف الوطني الكبير الذي تقف فيه الإدارة الأهلية في كل السودان هذا الموقف في هذه المرحلة الدقيقة التي يمر بها السودان، وتُعلن عن وقوفها ودعمها للمجلس العسكري، وتكوين حكومة كفاءات مستقلة حتى تعبر البلاد هذه المفاوز الجدباء القاحلة ..

لا يُعجب بالطبع الحزب الشيوعي، ولا أحزاب اليسار هذا الموقف المتقدّم من الإدارات الأهلية، فلطالما اعتبر الحزب الشيوعي السوداني منذ تأسيسه نهاية الأربعينيات من القرن الماضي على يد الصهيوني هنري كورييل بالقاهرة، اعتبر الإدارة الأهلية والقيادات القِبلية جزءاً من القوى الرجعية التي يتوجّب محاربُتها والقضاء على دورها وإزاحتها من الحياة العامة، وبالفعل عندما تمكّن الشيوعيون من الحكم بتدبيرهم انقلاب مايو1969 ، سارعوا على الفور إلى حل الإدارة الأهلية لعلمهم التام، أنها صمام أمان المجتمع السوداني، وعموده الفقري، وكان الشيوعيون يعلمون أن برامجهم وأهدافهم لن تتحقّق ولن تستقيم أمورهم وتدين لهم البلاد بالكامل إلا بتغييب الإدارة الأهلية، وفتح الطريق لما يسمونه بالقوى الحديثة، وهي المنظمات وأدوات المجتمع المدني والنقابات وغيرها من آليات العمل التي يظن الشيوعيون أن بالإمكان السيطرة عليها، هي ما يستطيعون من خلاله صناعة نظام الدولة والحكم الذي يريدونه في البلاد .

ومعروف ما الذي حلّ بالسودان عقب حل الإدارة الأهلية في عهد مايو الأول، انفرط عقد الأمن بغياب الأدارة الأهلية، وتفتت وحدة المجتمع، وعجزت الإدارات البديلة في الخدمة المدنية كالحكم المحلي، ثم الإقليمي عن إدارة شؤون الناس من دون النظام الأهلي، وكل الدراسات والتقارير التي أُعدّت عن أسباب وجذور تنامي الصراعات القبلية وظهور النهب المسلح في غرب السودان، وانتشار الجريمة المنظّمة وضعف إيرادات الحكم المحلي والضرائب، خاصة ضرائب القطعان والزراعة ونقص المرافق الخدمية والقصور في تمويل تسييرها سببه الرئيس غياب الإدارة الأهلية، وهي المحرك الفعلي المجتمع ..

فالدور الذي تقوم به الإدارة الأهلية، لا يعجب بالطبع كما قلنا قوى الحرية والتغيير  التي كانت تريد الانفراد بحكم السودان خلال الفترة الانتقالية، ولأربع سنوات لتكرار ما فعلوه مطلع السبعينيات من القرن الماضي، وكانوا حتمًا سيُعلنون حل الإدارة الأهلية، وإجهاض تجربتها وإنهاء دورها.. ولذلك موقف الزعامات الأهلية أمس  ليس مجرد تفويض عابِر وعارِض للمجلس العسكري لتشكيل الحكومة الانتقالية، ولا فقط مساندة للعسكريين وحشداً وتأييداً تحت إشراف نائب رئيس المجلس العسكري الذي خاطبه أمس خطاباً وطنيًا شاملًا وصادقاً وبتوجّهات واضحة تحفظ للبلاد كرامتها وسلامتها واستقرارها، فما حدث في ملتقى الإدارة الأهلية أمس يتجاوز المسائل الآنية الظرفية إلى نطاق أوسع بكثير يصب في مصلحة البلاد ويُجنبها الانقسامات الحادة، فالأحزاب يمكن أن تختلف وتتشظّى وتتفتت وتنقسم، لكن الإدارات الأهلية والقبائل إذا انقسمت وتجزّأت وتناحرت، فإن السودان سيكون كله في خطر، وإلى زوال، فأهل الحكمة والعقل الراجح هم هؤلاء الرجال الذين تدافعوا بالأمس وعبّروا عن آرائهم وأعطوا الرسالة الواضحة الجميع وفهمها من يفهم وعرف أبعادها من يقرأ الواقع والمستقبل جيدًا … وهذا هو الدرس ..

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى