عبد العزيز يعقوب – فيلادلفيا يكتب : العطاء النسوي بين حاجة حنينة الداية (القابلة) والأستاذة المربية عائشة عمر في حي أبو روف

 

 

5 ابريل 2022م

[email protected]

انتفاضة النساء في نيويورك من أجل الحقوق وساعات أقصر في العمل والمساواة في الأجور باسم الحزب الاشتراكي الأمريكي، حدث ذلك في العشرية الاولى من العام ١٩٠٠م، ثم ازدادت المطالب الدولية في يوم عالمي للمرأة وتداعت إليه النساء في أوروبا لإنهاء اضطهاد المرأة وتحسين أوضاعها في بيئة العمل والمساواة في الأجور. واِثر دعوة مجتمع النساء في مؤتمر كوبنهاجن ١٩١٠م في جعل يوم ٨ مارس يوماً عالمياً للمرأة. أما الأمم المتحدة فلم يُحرِّك لها ساكنا حتى ١٩٧٥م لتقرر اعتماد يوم عالمي للمرأة.

أعتقد بأننا نحن السودانيين لم نحسن التوثيق لنساء سودانيات كنّ قمة في العطاء والكفاح ومارسن حقوقهن التي كفلها لهن مجتمعنا المتدين المتسامح المتقدم جداً على دعاة حرية المرأة والبحث عن حقوقها الضائعة في مُجتمعات رغم البهرجة والمُناداة والصريخ للحقوق المُدعاة غارق في جاهلية تجاه المرأة، ويظهر ذلك في عدم احترام للمرأة والعنف البدني واللفظي والعاطفي والقهر ضد النساء الذي جعل من النساء سلعة رخيصة مُحتقرة في قيم رأس المال الجشع greedy إلا من رحم من المسيحيين واليهود المتدينين.

(٢)

جدتي لوالدي السيدة حليمة بت دياب التي ساقتها الهجرة من الولاية الشمالية مع زوجها الى الاستقرار بحي أبو روف كانت امرأة عاملة مكافحة عملت في التجارة البسيطة، كان ترعى – كنتيناً – دكاناً في منزلها تساعد به زوجها وتسد به بعض فروقات تكاليف الحياة البسيطة حينها، وتدخر منه بعض المال لحين سماع صوت المنادي ينادي بالحج، وكان الكنتين به دفتر – الجرورة – الذي لا تستطيع هي قراءته، لكنها كان حريصة ألا يطلع عليه أحدٌ إلا من تحدده من أحفادها ليساعدها في كتابة ذلك، وكانت الحياة عندها ميسرة، فلها بضع غنيمات يرعاهم الراعي الذي يأتي في بواكير الصباح، ويُخرج أغلب سكان الحي أغنامهم ليرعاهم الرجل الأمين ويعود بها قبيل غروب الشمس، وأيضاً، في مؤخرة الحوش بضع دجاجات يضعن بيضات وديك ينبهنا الى موعد الفجر الصدوق ويعلن كل يوم عن بداية يوم جديد، ولها أيضاً قفص حمام يُنوبنا من لحمه الطيب نصيب من حين لآخر، وبالطبع تجامل به في أحيان أخرى لصويحباتها بعضاً من الحمام المشوي وشوربته الذكية كلما عاود أحد من جيرانها المستشفى مستشفياً أو أصابت إحدى جارتها وعكة من وعكات الزمان الجائر. وكانت جدتي ترعى كل ذلك وتقوم بواجباتها المنزلية من طبخ وكنس وغسيل ملابس واوان دون كلل او ملل او تذمر او شكوى تزيد بها رهق الحياة، ولكنها كانت تفعل وكذلك جاراتها في الحي بطيب خاطر، واختارت أن تكون اماً وصاحبة متجر وزوجة في شراكة لا استعلاء أو استغلال فيها ولَم تحتاج الى دعاة الحرية الزائفة ليدافعوا عنها ويزيلوا عنها الاضطهاد والقهر الكذوب!

(٣)

نماذج النساء العاملات اللاتي حقّقن سبقاً في بعض المجالات بحي أبو روف مثل المرحومة السيدة حنينة القابلة (الداية) وهي زوجة الشاعر الفذ محمد بشير عتيق، فقد كفل لها عامل التسامُح وتقديس الحياة الزوجية الفُرصة للعطاء الاجتماعي ومن مبدأ أن النساء شقائق الرجال في الشدة والرخاء دون منٍّ أو أذى، ظلت تقوم بدورها التوعوي، ولَم تشعر هذه السيدة الرائدة بدونيةٍ أو قهرٍ أو غِيرةٍ من بعلها المرحوم عتيق الذي نظم عشرات القصائد في الغزل والغناء، ولَم تحتاج الى من يدافع عنها ويجعل من عملها ودورها في المجتمع ودعم أسرتها استغلالاً لها وقهراً وتقييدا أو استغلالاً من جانب زوجها الخلوق المرحوم محمد بشير عتيق.

أما نموذجي التالي، فهو لسيدة سودانية فريدة مبدعة من حي أبو روف العريق، هي السيدة المرحومة عائشة عمر أو كما يحلو لنا ولكثير من سكان الحي بمناداتها بـ”ماما عشة”، فقد قامت هذه السيدة بتأسيس أول روضة أطفال كان مقرها في المنازل المُؤجّرة واستقر مقرها بنادي أبو روف الرياضي الثقافي الاجتماعي، فقد قامت بتأسيس روضتها على نموذج التدخل المبكر (Early Interventions) الذي تقوم به الدول المتقدمة اقتصادياً للأطفال لاكتشاف المواهب والنُّبُوغ المُبكِّر، ومُعالجة المَشاكل المُرتبطة بالنطق والكلام والمهارات اليدوية، فقد قامت هذه السيدة بتأسيس هذا العمل كنوعٍ من مجالات العمل الربحي لتعيل به أنجالها وأسرتها وتضطلع به لتحقيق دورها الاجتماعي والتربوي والقيادي على أحدث أنظمة التعليم التي اعتمدتها دول كالولايات المتحدة، وكجسر ايجابي يحقق تمييزا مبكرا في مراحل التعليم لهؤلاء التلاميذ، ولكن عقلية أستاذتنا “ماما عشة” كانت متقدمة بسنوات ضوئية عن الوضع العام في بلادنا، إذ اعتمدت التدريس الأكاديمي والموسيقي والفنون الجميلة والرحلات كأدوات علمية للتدريس والتلقين، لم تحتاج عائشة عمر إلى منظمات للدفاع عنها لتقوم بدورها وتخلق مساحة لها في المُساهمة في تصوير المجتمع، وكان كل سلاحها وأدواتها، الإرادة والعطاء في حشمة وأدب ووقار واحترام للمُجتمع وقيمه وتقاليده الإنسانية هي التي جلبت لها احترام وتقدير أهل الحي الذين يؤمنون إيماناً قاطعًا بأن المؤمنين والمؤمنات بعضهم أولياء بعض يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر برفق وحكمة وذكاء وأدب جم ودون إحداث شروخ اجتماعية تظل تنخر في دواخل المُجتمع بعداوات وهمية بين النساء والرجال سيكون حصاده الاضطرابات النفسية والأمراض العقلية.

التحية لنساء حي أبو روف اللاتي لا تسعفني المساحة لذكر أفضالهن أو مُشاركاتهن في العمل الثقافي والاجتماعي والتربوي، والتحية عبر السيرة العطرة “للسيدة حليمة وحاجة حنينة وماما عشة”، ولكل النساء في الحي العريق، ولكل نساء السودان وأتمنى أن يعي الجيل الجديد بأن لديه رائدات في كل حيٍّ وفِي كل قرية ومدينة، باتّساع هذا الوطن الجميل خذوا من قيمهن النبيلة والفاضلة  لنبني بلادنا على نهج “حبوبة حلوم وحاجة حنينة وماما عشة”، وأن يكون هذا المكتوب دافعاً لتوثيق عطاء الحركة النسوية السودانية غير المسبوق والمتقدم على المستوى الإقليمي والعالمي، ولم يجد حظاً جيداً من التوثيق.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى