أحمد يس يكتب : عسكر وساسة في رمال السياسة 

31مارس2022م

دولة السودان الحديثة عمرها ٦٥ عاماً، قضت منها ٥٢ عاماً تحت نير حكم العسكر تخلّلتها فترات انتقالية.. إذن تبقى للمدنيين ما يقارب ٨ سنوات حكم تفرّق دمها بين خمسينيات وستينيات وثمانينيات القرن الماضي وسنتين يتيمتين في ألفيتنا الأليمة.

نسيبة تصرخ بأعلى صوتها  “مدنيااااو”، ويظل نزار وجبل توتيل صدىً لصوتها المبحوح.. قبل أن يتم اجهاض حلمهم بدولة المواطنة والقانون والحريات.

كل العالم يشهد أن الاستعمار الإنجليزي أورث السودانيين بلداً عصرياً متقدماً يمتلك أفضل نظام إداري وميناءً حديثاً يكاد يكون وحيداً في أفضليته بالبحر الأحمر وقتها، ومشروعاً زراعياً بين النيلين تغني به الشرق والغرب في أنموذجيته، وربط مناطق الإنتاج بأماكن الاستهلاك ونقاط التصدير، ونظاماً تعليمياً قوياً كان كعبة يحج إليها طلاب العلوم من كل فج عميق.. كل هذا الميراث وكل هذه القدرات  كانت محصلتها النهائية صفراً كبيراً على الشمال بسبب إخفاق النخب الحاكمة في توطينها وحُسن إدارتها، وفشل النخب المثقفة في توضيح وتثبيت أركان الدولة شكلاً ومضموناً، فقد تسبّب عدم تثبيت هوية الدولة وعلاقتها بالمواطن في انفصال جنوب السودان بعد مخاض طويل فاق نصف قرن.. ويتسارع الآن أوان انفصال دارفور أيضاً  لعدم حسم قضية الهوية والتعامل معها بما يشبه الانتهازية السياسية وإدخالها ضمن لعبة تقاسم الكعكة التي يجيدها السياسيون والعسكر المتسيِّسون.

تعقيدات ما بعد ثورة ديسمبر التي طفحت على السطح وأزكمت روائحها كل الأنوف، أثبتت بما لا يدع مجالاً للشك بأن السودان كدولة تُعاني من خلل بنيوي كبير، فقضية هوية الدولة ما زالت أم القَضايا كما كانت في فترة مُنتصف الخمسينيات.. كما ظهر توجهٌ ذو وجاهة بأن للسودان أوجه تاريخ كثيرة وعميقة جداً وليس محصوراً في تاريخ الدولة المهدية كمثال.. ارتفعت الأصوات المنادية بدولة المواطنة والمساواة أمام القانون والعدالة في توزيع الثروة والسلطة والفرص.

ما يجب أن تعيه النخبة السياسية والمُستنيرة بأن ما كان ممكناً في الستينيات والسبعينيات، لم يعد مُمكناً الآن في ظل اتّساع ماعون التعليم والتعلم وضيق الكون على اتّساعه حتى أصبح قرية محدودة فاختلفت الأدوات وتمايزت المُعطيات وبالضرورة ستختلف النتائج وليس في كل مرة تسلم الجرّة.. فإذا كانت دارفور الجرح النازف في جسد الوطن في بداية هذه الألفية، فإنّ شرق السودان سيكون المدمر والمفتت للسودان ووحدته باعتباره العمود الفقري والرافعة الحقيقية والرئة التي يتنفّس بها، ويبدو أن هنالك جهلاً أو تغبيشاً لعقل المواطن البسيط بأن من فرد ذراعيه ونفخ أوداجه وصاح ملء حنجرنه بنشر لايف فيسبوكي أو بث رسالة صوتية عبر الوسائط، فهو ذو وزن وفعل حقيقي، وهو أهون من ذلك لأنه يفتقد إلى أدوات الفعل الحقيقية من مال وعلم وقواعد بشرية.. وبحسب ما نرى فإنه ورغم الفواجع والأحداث المؤلمة التي مرت على الشرق خلال العامين المنصرمين، فإنه حتى الآن لم يحدث التسونامي الحقيقي نتيجة لصبر وحكمة وطول نفس الكبار، ولا يخفى على عاقل ذي بصيرة دنو نهاية صبرهم وتآكل أعواد حكمتهم، وعلى الطاولة الآن أمام الدولة واحد من خيارين لما يدور في شرق السودان منذ سنتين، فإما أن تبتر الأيدي التي تعبث وتسدر في غيِّها جهلاً أو تعمُّداً ويأمن السودان على نفسه وكينونته أو أن تتمادى في إفساح المجال لسماسرة السياسة وأرزقية الموائد فيواصلوا في غيِّهم وعبثيتهم التي تعمل على تفتيت البلاد والعباد، وتسدل الستار على نهاية هذه المسرحية السمجة معنىً ومبنى.

ألا هل بلغت اللهم فاشهد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى