Site icon صحيفة الصيحة

صلاح الدين عووضة يكتب : بنت المريق!!

صلاح الدين عووصة

صلاح الدين عووضة

18مارس2022م 

يقول الراوي:

في بلدةٍ ما بشمالنا النوبي..

وفي أصيل يومٍ من أصائل الصيف الذهبية..

كان باشاب يسير على الدربوق..

وسيقان الذرة تتمايل – ساعتذاك – بفعل همبريب النيل المشبع برائحة الجروف..

وقوة ما دفعته إلى أن ينظر نحو السيقان الراقصات..

ومن فوق السنابل ظهر له وجه ذو شعرات راقصات هي نفسها… ونظرات ضاحكات..

لقد كانت بنت المريق؛ عرفها باشاب قبل أن يغيب عن الوعي..

وحين عاد إليه وعيه – بعد أن نُقل إلى بيته – لم يكن هو وعيه ذاته الذي به يعي… ويعقل..

وعُرف مذاك اليوم بباشاب العوير… وباشاب الدريويش..

ولكنه صار يعي جيداً أمراً واحداً؛ وبه أُغرم حد الجنون… أو فوق الجنون الذي تلبسه..

وهو عشق البنيات… الصغيرات… السميحات..

واشتهر بذلك في البلدة… والبلدات المجاورة؛ وخشيت الأسر على بنياتها الصغيرات السميحات..

يقول الراوي:

ثم كان عرس أمونة بت شيخ البلدة..

وامتلأت الدار – وحوشها – بالبنيات الصغيرات السميحات؛ ومنهن الزينة بت حاج الطاهر..

وكانت سمحة… وكانت قمحة؛ يقول الراوي..

وباشاب هو باشاب؛ العوير الدريويش الذي جُن منذ أن وقعت عليه نظرات بت المريق..

نظراتها الضاحكات من فوق عيدان الذرة..

وأقبل المساء؛ وصدحت خدوم بصوتها القوي الذي كان يُسمع في أرجاء البلدة كافة..

غنت كما لم تغن من قبل؛ هكذا قال البعض للشيخ ملقاً..

وأوغل الليل؛ وخدوم صوتها يزداد نداوةً… وطلاوةً… وحلاوة..

ورقصت الزينة بت حاج الطاهر؛ وكانت سمحة… وكانت قمحة… وباشاب هو باشاب..

رقصت رغماً عن أمها؛ وقد لمحت باشاب هذا بين الزحام..

لمحته وهو يحملق بنظراته الراقصات في البنيات الصغيرات السميحات؛ وفي الزينة..

وبعد أن فرغت الزينة من رقصها افتقدتها أمها..

افتقدتها في زحمة نهايات فواصل الغناء… والرقص… والطرب..

لم تجد لها أثراً بين البنات… والأطفال…. والنساء…. والحريم المكلفات بإعداد الطعام..

يقول الراوي:

وباشاب هو باشاب؛ العوير الدريويش… المغرم بالبنيات الصغيرات السميحات..

وكان ود مجذوب – لحظتذاك – يؤوب إلى داره من الغيط..

وبجوار طاحونة النصارى المهجورة سمع ما يسترعي انتباهه؛ وأثار الخوف في نفسه..

سمع فحيحاً… وزفيراً… و…أنيناً..

ودفعه الفضول إلى ولوج الطاحونة المخيفة..

فضول أن يعرف مصدر الزفير… والشهيق… والأنين؛ بالداخل..

رغم إنه كان – مع ما عُرف به من شجاعة فائقة – يتهيبها حتى في وضح النهار..

وما ذاك إلا لأنها – مذ هُجرت – مسكونة بأعتى صنوف الشياطين..

هكذا شاع الأمر في القرية – وما جاورها – منذ أمد بعيد؛ وما يُحكى عنه تشيب له الولدان..

وكان يسرع الخطى للحاق ببقايا الحفل… واللحم… والعرقي..

ودهش لما رآه في جوف الطاحونة… والعتمة؛ مستعيناً في ذلك بضوء مصباحه اليدوي..

ولكنه دهش أكثر لردة فعل اللذين شاهدهما هناك..

أو بالأحرى؛ لعدم ردة فعلهما… فهما لم يكترثا به إلا قليلا… إلا قليلاً جداً..

يقول الراوي:

وفي ذلكم الأثناء كان غناء خدوم قد أسكر الرجال بأكثر مما فعل الدكاي المشعشع..

ومع صمت الليل – وسكونه – ازداد وقع صوتها… وإيقاعها..

وهبط الهواوير؛ وصعد الرواويس..

وأم زينة بنات البلد – الزينة – تجوس خلال الزحام بحثاً عن ابنتها..

فقد اختفت فور أن أنهت رقصتها؛ واختفى – في الوقت ذاته – باشاب العوير الدريويش..

المغرم بالبنيات… الصغيرات… السميحات..

والذي انتبه لاختفاء باشاب أستاذ الجغرافيا بمدرسة البلدة المتوسطة؛ حسين إدريس..

فقد كان يرقبه – ضاحكاً – وهو يراقب البنيات الجميلات..

ثم غفل عنه حين بات هو نفسه يراقب – بشغف – رقص الزينة… وشعرها… وقدميها..

وكان بها متيماً حد الوله؛ في صمتٍ نبيل..

ولم ينتبه لغيابه إلا حين صك أذنيه صراخ أمها؛ وأخريات..

يقول الراوي:

وبعد أخذ ورد… وصياح وضجيج… واجتماعات ومشاورات؛ استقر الرأي على شيء..

ولعبت حكمة العمدة دوراً كبيراً في الشيء هذا..

وغلبت على وعيد شقيقها الأكبر عصام؛ وعلى تهديد ابن عمها الشرس عبد اللطيف..

وذلك الشيء هو أن تُستر الفتاة – على سنة الله ورسوله – إلى حين..

رغم إن باشاب – بعد أن غدا عويراً درويشاً – ما عاد يقبل بمصاهرته حتى عبود نويرة..

وإلى أن يحين أوان عقد القِران طفقت القرية تجتر عجائب القصة..

ومنها العجيبة التي أدهشت ود مجذوب؛ وهي لا مبالاة المفضوحين به عند رؤيته لهما..

أو عند رؤتهما – هما – له بعينين شبه مغمضتين..

أما أشد العجائب غرابة – في نظر كثير من أهل القرية – ما كان يردده لسان باشاب..

وذلك عندما يُسأل عن كيفية خطفه الزينة في خضم الحفل..

ما كان يردده بلسان أضحى ثقيلاً منذ حادثة الدربوق في ذياك الأصيل… بجوار حقل الذرة..

فقد كان يقول: لم أخطفها؛ فقط طلبت منها أن تمشي معي… فمشت..

ثم يضحك ضحكةً مشروخة… قبيحة..

يقول الراوي:

ولكن قبل أن يأتي أوان موعد الشيء المضروب..

وفي أصيل يوم من أصائل الصيف الذهبية… وعند حافة الدربوق… وبجوار أعواد الذرة..

ما عاد باشاب عويراً… ولا درويشاً… ولا مغرماً بالبنيات الصغيرات..

بل ما عاد له وجود – أصلاً – في البلدة..

فقد عُثر عليه جثة هامدة..

وحُفظت القضية..

يقول الراوي:

وهكذا انتهت قصة باشاب مع بنت المريق..

أو قصة بنت المريق معه..

أو قصتهما معاً مع البنيات… الصغيرات… السميحات..

ومع زينة بنات البلدة..

الزيـــنة!!.

من أرشيف الكاتب

Exit mobile version