د. حسن بن أحمد الهواري يكتب :(تكوين الأحزاب السياسية رؤيه فقهية وتأصيلية) (١)          

11مارس 2022م

منذ فترة وأنا أكتب وأعلق وأناقش وأقدم أوراقاً وكلمات في الفقه السياسي، أو فقه السياسة الشرعية، ومقالاتي في ذلك منشورة، بل لديّ دورة تأصيلية في فقه السياسة الشرعية مع مجموعة من طلبة العلم الأخيار لم تنتهِ بعد، كل ذلك بقصد تأصيل مسائل السياسة، ومنزلتها في شريعتنا وتصحيح بعض المفاهيم، وتحرير بعض المسائل.

وفي هذه الأيام، كثر الجدل في مسألة من مسائل السياسة ربما كانت الأوضاع السياسية في بلادنا من دواعي ظهورها، وهي مسألة: “تكوين حزب سياسي”.

وقد ظهرت فكرة تكوين حزب سياسي لدى بعض إخواننا من أهل السنة، ونحسب أنّ دافعهم لذلك هو مناصرة الحق ومُدافعة الباطل، وظنّهم أنّ الحزب السياسي سيُحقِّق لهم ذلك الهدف النبيل.

والمسألة تعتبر نازلة فقهية، وفي ظني أنّ تعامل الإخوة المُناصرين لها والرافضين على السواء لم يكن منهجياً بالقدر المطلوب حتى أدى ذلك أخيراً إلى شيءٍ من التراشق والاِتّهامات مِمّا لا يُليق بأهل العلم والدعوة في بعض أحواله.

وظللت مُمسكاً عن قلمي في الكتابة في الموضوع، ومحجماً عن النشر بغية اجتماع المشايخ الأجلاء من أهل السنة للنظر في النازلة وإصدار ما يُناسب المقام فيها، ومع أني لا زلت أرجو ذلك، إلا أنه قد بدا لي الآن الكتابة في الموضوع ومناقشته بمنهجية والنظر فيه نظرة تأصيلية ولو كانت فردية إلى حين اكتمال ترتيبات أمر شيوخنا الفضلاء.

وقد عجّلني لذلك ما بلغني من سجال وجدال بين الإخوة في الموضوع، مما لا يبدو لي أنه يخدم الدعوة خاصة، ولا الإسلام عامة، إذا سار على هذا النهج، فعزمت على خوض غمار الموضوع مدلياً بما أعلمه فيه متحرياً للحق قاصداً بيانه {إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلَاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ} [هود: ٨٨].

وقبل البدء في حلقات هذا الموضوع والنازلة رأيت أن أعقب على ما نشره بعض شبابنا الفضلاء، فقد نشروا لي مقطعاً مختصراً في إجابة سؤال عن حكم تشكيل حزب سياسي سلفي كما ورد في السؤال، وتداول بعض الإخوة المقطع، وأبدى كثيرون منهم تعليقاتهم عليه بين مؤيد ومعارض.

ومِمّا لا شك فيه أنه لا حجر على أحدٍ في رأيه سواء كان مُخالفاً أو موافقاً، لكن لا بد أن يكون مَبنياً على علم وإنصاف ودراية بالأمر. وتعليقاً على هذا الموضوع هذه بعض الإيضاحات:

▫️ أولاً: كُنت عرضت لهذا الموضوع في مُحاضرة قبل أكثر من أسبوعين، بشيءٍ من التفصيل مُشيراً إلى الحكم الأصلي، ومنزلة هذه المسألة من العلوم الشرعية، والأحكام العارضة، والآداب التي تجب بين الإخوة المختلفين فيه، واقترحت لمن أراد أن يدخل في عمل كهذا مُقترحاً، ثم ذكرت رأي الخاص، وتفاصيل هذه الأمور ستأتي بإذن الله في حلقات قادمة.

▫️ ثانياً: فرق بين أمر ينشره صاحبه محرراً يراعي عباراته ويضبط كلماته ويجمع أطرافه ويأتي على كل جوانبه؛ فرق بين هذا وبين جُملة مُختصرة رداً على سؤال رأى أنها تناسب المقام، ولم ينشرها، وإنما نشرها بعض الفضلاء باجتهاده.

▫️ ثالثاً: بعض من عقب على هذه الفتوى يعلم أن لدي تفصيلاً في المسألة بدليل قوله: “هو ليس ممن يحرم أصل الإنشاء كما هو واضح من تقريره وقد سألناه مباشرةً، ولكنه يقرر هنا النظر في الواقع هل يناسب أم لا؟” أقول: فمن يعلم هذا أما كان يكفيه في التعقيب؟ فما معنى بقية ما أتى به من الردود؟.

وبعض من نشر رده مُعجباً به حضر ما ذكرته من تفصيل في محاضرتي المشار إليها أعلاه مُباشرةً، وعلّق عليه في ذات المجلس مثنياً عليه، فما معنى نشره له، وإعجابه به؟.

▫️ رابعاً: جواباً على سؤال طرحه بعض شبابنا: “هل ما لا فائدة منه لا يجوز؟ خصوصاً أن الأصل في العادات هو الإباحة حتى يتحقّق الضرر البيّن؛ فما الدليل على هذه القاعدة؟ فلازم هذه القاعدة تحريم كثير مما نفعله من أمور التسلية المباحة التي لا فائدة منها!”.

الجواب من وجوه:

الأول: لم أقل إنها قاعدة، ولا تصح قاعدة على إطلاقها، وإلى هنا التعقيب سليم مع أنه لا حاجة له من قبل شخص يعلم قصد المتكلم كما أقر بنفسه.

الثاني: قوله حتى يتحقّق الضرر، يُضاف إليها: أو يظهر منها ما يخالف الشرع بوجه من الوجوه، ثم هذا هو المقصود وهو ما أصلته كما أشرت أعلاه.

الثالث: لا شك أن قصدي إجابة السائل بعدم جدوى حزب الآن نظراً للمفاسد العظيمة في نظري، وعلى ذلك يحمل التحريم لا على مجرد عدم النفع، وإذا كانت العبارة فيها خلل وقصور، فهذا تصويبها، لكن العتب على من يعلم قصدي باعترافه أو بحضوره، ثم بعد ذلك يقول هذا.

▫️ خامساً: القول بأن نفي الفائدة عن تكوين حزب، ثم الفتوى بأن يعطى الصوت في الانتخابات لأقرب الأحزاب للحق، هو إقرار صريح بوجود فائدة في بعض الأحزاب حينما تقارن بغيرها، وإلا فما وجه كونها أقرب من غيرها؟ أليس هو وجود فائدة ما؟ اهـ.

أقول جوابه من أوجه:

الأول: قائل ذلك غفل عن أن نفي الفائدة ليس مُطلقاً، ولكنه في هذا الاستعجال في التكوين، وباقي المقطع واضحٌ في هذا.

الثاني: لو أنصف هذا القائل لأقرّ بأنّ الفائدة للأمة، والبلاد الآن هي في دعم أحزاب قائمة لها قاعدة شعبية، دُون الانشغال بتكوين حزب لا فائدة فيه في الحال قطعاً، وإن رجيت منه منفعة لاحقة.

الثالث: من له أدنى مسكة من علم يعلم الفرق بين تشكيل حزب، والتعاون مع حزب قائم، لأنّ الثاني واقعٌ يتعامل معه حسب قواعد الشرع وإن كان في أصله غير مشروع، بخلاف ابتداء الإنشاء والتكوين، فالتعامل مع واقع قائم وفق قاعدة المصالح والمفاسد وإن لم يكن في أصله مشروعاً لا يجيز لنا صنع ذلك الواقع ابتداءً، وهذا واضحٌ.

▫️ سادساً: القول بأنه: “إذا كان الحزب المولود ضعيفاً، ولن يكون له في الوقت الحالي أثرٌ، ولا فائدة؛ فما الإشكال في ذلك؟ هل الأحزاب تُولد كبيرة مُؤثِّرة من أول يوم؟ وكيف صارت الأحزاب الكبيرة إن لم تُولد في يومٍ ما ضعيفة؟”.

الجواب على هذا الإشكال من وجهين:

الأول: من اطّلع على ما ذكرته في تفصيل الحكم يعلم أن الحجة في منع قيامه ليست مجرد عدم النفع، وإنما المفاسد الغالبة، فلا معنى لهذا السؤال، ولا معنى للقول: “وإذا كانت هذه هي الإشكالية فلماذا لا تدعمون هذه الأحزاب الوليدة؟”.

الثاني: نعم من الأحزاب من تولد كبيرة مؤثرة، وكان من المُمكن لحزب كهذا أن يُولد كبيراً مؤثراً إذا بني على أسس صحيحة من البحث والدراسة والفتاوى، ومن ثم كسب قواعد أهل السنة العريضة التي تجعله يولد كبيراً مؤثراً وإلا فلا فائدة منه، وأين حزب الوسط الذي أسّس منذ فترة ولم نر له أثراً حتى الساعة؟ أنريد أن نُكرِّر ذات التجربة دُون أن نستفيد منها؟.

 

▫️ سابعاً: الاعتراض على ما قدمته من مُقترح أن نقوم بدراسة مُتأنية ودقيقة وقراءة للواقع ..إلخ بالقول: “وهل حينما حكمنا بعدم فائدته الآن لتكوين الحزب جمعنا كافة المتخصصين وقاموا بدراسة مفادها عدم الفائدة؟ هل هناك دراسة بذلك؟”.                                  هذا غايته اعتراضٌ إلزاميٌّ المقصود به إظهار تناقض قولي، وكما ذكر العلامة ابن تيمية رحمه الله في كلامه عن الرد على من يقول بلازم القول: “لَازِمُ قَوْلِهِ الَّذِي لَيْسَ بِحَقٍّ، فَهَذَا لَا يَجِبُ الْتِزَامُهُ إذْ أَكْثَرُ مَا فِيهِ أَنَّهُ قَدْ تَنَاقَضَ وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ التَّنَاقُضَ وَاقِعٌ مِنْ كُلِّ عَالِمٍ غَيْرِ النَّبِيِّينَ عَلَيْهِمْ السَّلَامُ”، فلو سلمت أنا بتناقض قولي فغاية ما فيه أنه خطأ لا يفيد المخالف شيئاً في نصرة قوله اللهم إلا أن يقصد التشفي من مخالفه. الوجه الثاني: توجيه الناس بالطريقة المثلى للوصول إلى حكم يطمئن له الجميع لأنه يكون بعد دراسة متأنية من جمع من المختصين، هذا لا يمنعني من إظهار قولي الذي أراه، كما أنه لم يمنع من خالف قولي من دعوته لحزبه وليس فيه تلك الفتاوى التي أرشدت إلى طريق الوصول إليها.

▫️ ثامناً: “الاستشهاد بفتوى شيخنا العلامة ابن عثيمين رحمه الله في “فائدة الدخول ولو كان لشخص واحد فقط فضلاً عن مجموعة وحزب”.

الجواب على الاستشهاد من أوجه:

الوجه الأول: هو الفرق بين الدخول في الحزب وبين تكوين الحزب.

الثاني: إن فتوى الشيخ إنما هي في التعامل مع واقع مفروض وهو الانتخابات، ولم يقل أرى أن إنشاء الأحزاب واجب، فتنبه.                      الثالث: قول الشيخ: “يجب أن نعين من نرى أن فيه خيراً”، وأكد ذلك بقوله: “فلا بد أن نختار من نراه صالحاً” هو ما قلته أنا، إذ لم يقل الشيخ يجب أن ننشئ حزباً، وإنما قال نعين من نرى فيه خيراً، فقولي موافق لقول الشيخ فكيف كان جواباً علي؟؟.

الوجه الثالث: قول الشيخ: “فإذا قال قائل: إذا اخترنا واحداً لكن أغلب المجلس على خلاف ذلك، قلنا: لا مانع، هذا الواحد إذا جعل الله فيه البركة وألقى كلمة الحق في هذا المجلس سيكون لها تأثير ولا بد ..إلخ”.

الشيخ يتكلم عن شخص يدخل البرلمان، يدافع الباطل ولو وحده، وهذا يختلف عن حزب ينافس في الانتخابات وقد لا يكسب مقعداً واحداً، مع أن المعايير السياسية المعاصرة ومعها التجربة تبرهن أن وجود الواحد بل والقلة لا أثر لها، وكلام الشيخ يحمل على المبالغة من جنس حديث “ولو كمفحص قطاة”، ولهذا قال: “فَرَشِّحْ مَنْ ترى أنه خير، وتوكل على الله”. فعلم بهذه الأوجه أن الاستشهاد بالنقل عن شيخنا العلامة ابن عثيمين ليس في محله.. نواصل..

د. حسن بن أحمد الهواري

الأستاذ المشارك بجامعة القرآن الكريم والعلوم الإسلامية

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى