صلاح  الدين عووضة يكتب : أبو يومكم!!

3فبراير2022م 

تعب صالح..

تعب جداً في ذاك الشهر من أشهر الصيف الذي كثر فيه الموت بالبلدة العتيقة..

البلدة ذات النيل… والنخيل… ودكاي عبد الجليل..

فما أن يولم عبد الجليل هذا وليمة حتى يتعالى صوت الكوبدار ناعياً شخصاً..

والكوبدار هذا – أو الكوبدان – هو صالح..

وتعني المفردة النوبية هذه بلغة الضاد الناعي؛ وكان النعي من على ظهر حمار..

وحماره هذا نفسه تعب معه في ذلكم الشهر..

ثم ولائم عبد الجليل كثرت في الشهر هذا ذاته مع كثرة خيرات الحيضان والقطعان..

وهو كان للولائم محبا..

أو بالأحرى ما يصاحب الولائم هذه من شواء… وغناء… وطلاء..

والطلاء هو الخمر..

ولكن عبد الجليل ما كان يعجبه سوى الدكاي..

وفي يوم كان صباحه منعشاً – ذا سحب – تدبر عبد الجليل قعدةً ضحوية..

كان نغمة نشازاً في سيمفونية محمومة لذاك الصيف..

ولو كان مساء ذاك اليوم هو المنعش – لا ضحاه – لعاش صاحبنا حلم ليلة صيف..

لعاش ليلة شكسبيرية ذات فنتازيا..

وحرص على أن يكون دكايها منافساً لشوائها وفرةً..

ثم أقسم ألا يفسدن عليه يومه هذا طارئ؛ ولو كان صالح الكوبدار ذات نفسه..

ثم أرسل في طلب حنونة المغنية..

فما كل يوم تنعم البلدة بجوٍّ غائم – سيما صيفاً – يُنتقص فيه الأفق من أطرافه..

ثم يبدو كظُلة قوم موسى فوق الرؤوس اليابسة..

وقبل اكتمال التمازج الكيميائي بين الطلاء… والشواء… والغناء… أتى النذير..

هُمس في أذن عبد الجليل بأن الناعي يقترب..

فقد سُمع صياحه المبحوح بنواحي السوق؛ ويتجه بحماره المرهق صوب قبلي..

وراكبه ذاته كان مرهقاً..

فقد أرهقه تتابع الموت في ذلكم الشهر حتى غدا صوته مبحوحاً… كفحيح الأفعى..

فأسرع المضيف إلى أبواب – ونوافذ – ديوانه يحكم إغلاقها..

وأثناء ذلك يغمغم بغضب: والله لو البلد كله مات النهار ده أنحنا مش فاضين..

ثم هرول نحو جهاز الريل رافعاً صوته لأقصى حد..

فارتج كل شيء بأغنية شقي ومجنون..

جنبات الديوان العتيق… وأخشاب الأبواب والنوافذ… وحتى طبلات الأذن..

حتى حنونة ارتجت طرباً في انتظار دورها للغناء..

وتحرياً للدقة؛ أطربتها كلمتا شقي ومجنون… وما عداهما لم تفهم أي شيء..

كما لم تفهم أي شيء من ملابسات ذلكم الضحى..

لا مفاجأة الغيوم… ولا أسباب الوليمة المفاجئة… ولا مفاجأتها بالدعوة للغناء..

ولكن ما دامت ستقبض – وتشبع – فليس مهماً أن تفهم..

وما دام عبد الجليل سيطرب… ويشبع… وينتشي… فلا شيء يهمه بعد ذلك..

وهو في غمرة انتشائه همهم: أبو يومكم ذاته..

ولا أدري ما هو أبو اليوم هذا… لكنه كان يعني قطعاً من يموتون… ومن ينعيهم..

ونيوفيلد سمع يوماً أنصارياً يلعن السُكَّر..

وكان في قبضة النجومي – بدنقلا – واُتهم الأنصاري هذا بسرقة رأس سكر..

فجُلد جلداً شديداً..

ثم طفق يهمهم: أبو السكر ذاته؛ فتساءل نيوفيلد عمن يكون أبو السكر هذا..

وما أحوجني اليوم إلى مثل يوم عبد الجليل ذاك..

حتى وإن لم يكن ذا ذبائح… ولا دكاي… ولا حنونة… ولا سحابة صيف..

ولا ما تجود به زروعٌ… وضروع..

فكل شيء يذكرني بكآبة أجواء ذلكم الشهر من شهور الصيف ببلدتنا تلك..

والناعي – بلا حمار – يجول بيننا كما صالح..

وقد تعب هو… وتعب حماره… وتعبنا نحن؛ وتعبت منا عقولٌ وقلوب وأعصاب..

فقط أغلق على نفسي أبواب كل شيء..

فلا أسمع ناعياً… ولا ناعقاً… ولا عاتباً… ولا شاتماً… ولا طامعاً..

فقط أغنية شقي ومجنون..

وارتج جنوناً معها؛ جنوناً ينسيني كلما يجري – بالخارج – من جنون..

ثم أهمهم:

أبو يومكم ذاته!!.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى