*تصعيد ومواجهة … إلى أين؟

بلغ التفاؤل قمته عندما أعلن المجلس العسكري الانتقالي أنه اتفق مع قوى إعلان الحرية والتغيير على معظم القضايا التي طرحت، أهمها أن تختار قوى الإعلان مجلس الوزراء وأن تنال ثلثي المجلس التشريعي وتمثل بالتراضي في مجلس الرئاسة (مجلس السيادة)، بالإضافة إلى التزام الجيش وقوات الدعم السريع بتسليم السلطة للمدنيين.

هنأ المواطنون بعضهم البعض، لكن الـ١٠% من القضايا التي بشرنا بحسمها خلال سويعات، وهي نسب التمثيل في مجلس الرئاسة وموضوع رئاسة المجلس، صارا عقبة أمام استكمال الاتفاق النهائي للخروج بالبلاد من حالة “الفراغ الوزاري” التي تعطل العمل، وتزيد معاناة المواطنين وتؤثر على أمن البلاد واستقرارها.

المقلق بحق هو أن الأزمة، التي أدت إلى تهديد قوى الإعلان بالإضراب والعصيان  المدنى ثم تحديد يوم لذلك في الأسبوع القادم، معركة في غير معترك أو نزاع كان يمكن تفاديه، فقد أوضح المحامي نبيل أديب عبد الله (وهو أحد الذين ساهموا في إعداد الإعلان الدستوري الذي اعتمدته قوى الإعلان لعبور الفترة الإنتقالية)، أوضح في برنامج  بقناة “الشروق” يوم ٢٣ مايو أن السلطة الحقيقية في نظام الحكم البرلماني عند مجلس الوزراء وليس مجلس الرئاسة، بوسع المرء أن يستنتج من ذلك أن قوى الإعلان نالت الحق الأهم الذي يمكنها من إصلاح ما أفسده النظام الذي  أطاحوا رئيسه  وإجراء التعديلات  اللازمة خلال سنوات الانتقال الثلاث، فهل أعشت نشوة النصر بعض العيون عن ذلك، ودفعت قوى الإعلان لتحجيم دور الشريك العسكري  الذي انحاز فضمن نجاح الثورة؟ وهل فات على هذه القوى أن عامل التأخير في استلام السلطة ليس في مصلحتها، أو أن النزاع مع الشريك غير مضمون العواقب، ولن يكون بسهولة استقالة الفريق ابن عوف أو ثلاثة من أعضاء المجلس العسكري الانتقالي؟ لقد كتب جستن لينش، مراسل فورين بوليسي الأمريكية من الخرطوم (٢٢ مايو) مقالاً بعنوان “بداية الثورة المضادة في السودان”،  رصد فيه تحرك عبد الحي يوسف، ومحمد الجزولي الذي نعته بأنه داعشي التوجه، كما أشار إلى تدخل دول إقليمية أسماها تخشى تأثير التغيير في السودان وتشجع المجلس  العسكري الانتقالي على عدم تقديم أي تنازل جديد، وأضاف أن البشير قد أزيح، لكن نظامه موجود وسالم، وقد أشار للبعد الإقليمي الصحفي الرائد محمد لطيف في الندوة المذكورة أعلاه عندما قال إن هناك توجساً ورفضاً للثورة السودانية في الإقليم بأسره.

لقد كانت المثالية وقلة الخبرة بالسياسة العملية من أهم مزايا تجمع المهنيين وحلفائه، لأنها دفعتهم إلى ابتكار الوسائل غير التقليدية وغير المألوفة لوضع حد لهيمنة وتمكن النظام السابق، فهل ستتحول تلك المزايا الآن إلى عائق وسلاح مرتد يطالب بكل شيء ولا يقتنع بالقدر الهائل الذي أنجز؟

بالمقارنة، فإن التحالف المعارض تحت مظلة التجمع الوطني الديمقراطي الذي نشطنا فيه لم يحقق كل أهدافه، عند توقيع اتفاقية السلام الشامل، لكنه قبل القدر الكبير المطروح في الدستور المؤقت لعام ٢٠٠٥ وبه من الحريات ما فتح الباب لمواكب تجمع المهنيين بعد تسع عشرة سنة.

قال الأستاذ عثمان ميرغني رئيس تحرير “التيار” في برنامج أجندة سودانية بقناة سودانية ٢٤(٢٣ مايو)، إنه يتمنى أن يكون العصيان المدنى أداة للضغط والتصعيد لا للفعل، أشاطره الرأي وأتمنى أن يراجع متشددو ومثاليو الإعلان موقفهم ولا يصروا على مواجهة سيخسر فيها الشريكان، ويكسب تيار الثورة المضادة.

لقد تحول التهديد إلى حقيقة، إذ أعلن عن إضراب وعصيان يوم الثلاثاء القادم. نتمنى أن ينتهي الخلاف قبل يوم الثلاثاء، وأن لا يكون الإضراب إذا نفذ حلقة من مسلسل صراع يشرخ حسن النيات أو يولد مرارات.

*الدولة العميييقة مرة أخرى:

بح صوتي من القول بأن” تمكين” المؤتمر الوطني لا يمثل “دولة عميقة”. جادلت أكثر من مرة بأن مؤسسات التمكين المالية والإدارية وشبه العسكرية مكشوفة وليست عميقة، الهياكل السرية أمر آخر لكنها لا تبرر استخدام وصف الدولة العميقة، بيد أن تعبير الدولة العميقة اكتسب رواجاً وصار على كل لسان. أخيراً جدا اًرتفع صوت الزميل د. منزول عسل، قائلاً إن نتيجة التمكين “دولة موازية” وليست عميقة.

تتكون الدولة العميقة وتغوص تحت جلد الدولة ومؤسساتها. ولا يمكن أن تنشا في غياب أو عدم اكتمال الدولة الأولية الحديثة.

تعرف الدولة الأولية كل المواطنين وتعرف أرقام البيوت وعدد الذين يقيمون بكل بيت وأعمارهم. ترصد دافعي الضرائب والطلاب والباحثين عن عمل، تعرف أرقام السيارات وعددها وتاريخ شرائها أو إنتاجها، تعرف الناتج الإجمالي القومي وتوقعاته، تعرف الأجانب المقيمين وتواريخ دخولهم ومغادرتهم. تسيطر على الحدود ومداخلها ومخارجها، تعرف إنتاج المزارع والمصانع ومقومات نجاحها وإخفاقها، تدرك وتدرس نيات الدول الأخرى والمصالح المشتركة والمتناقضة معها.

الدولة بهذا المفهوم لا تزال تتشكل في السودان، لذا لا يمكن عملياً أن تختبئ تحتها دولة أعمق، أقصى ما يمكن تحقيقه هو دولة موازية، كما ذكر د. منزول عسل، فقد طرح المؤتمر الوطني اللوائح والنظم الحكومية جانباً وتجاهلها عند إنفاذ ما يريد، وتمادى في ذلك فضايق بعض التجار وحابى آخرين ليحلوا محلهم وخص أعضاءه بالوظائف والترقيات، كون بذلك دولة موازية لا دولة عميقة.

*أين أمانة الخواجات يا أستاذ إسماعيل التاج؟

تدفع الموضوعية الخواجات المستقيمين الى درجات رفيعة من الأمانة الفردية والإنصاف  تماماً كما هو الحال في ثقافتنا.

شاهدت مقابلة مع الخبير القانوني إسماعيل التاج القادم لميدان الاعتصام من انجلترا، وتوقعت أن يلتزم بالصفات المشتركة بين ثقافتين .

كان الأستاذ إسماعيل التاج  محقاً في ذكر قانون النظام العام (الذي طالبت بإعادة النظر فيه قبل الثورة، وسبقني آخرون منهم الأستاذ ضياء الدين بلال رئيس تحرير السوداني)، لكنه تجاهل حقيقة أن المرأة السودانية تمتعت بنسبة ٢٥% من مقاعد المجلس الوطني، أكثر من النسبة في البرلمان البريطاني، وأنها تولت أعلى مناصب القضاء بصورة لا مثيل لها في مصر وغيرها، وأن حق المساواة بالرجال في الأجور الذي تحقق أيام النميري ظل كما هو.

هناك فرق أو ينبغي أن يكون هناك فرق بين استهجان الفساد وسوء الإدارة أيام حكم المؤتمر الوطني، وبين إنكار بعض الحقائق  الملموسة التي يذكرها الخواجات بأمانة، الأخ  الكريم محق في إشارته لقانون النظام العام لكن إغفال مسائل ذات صلة ليس من الموضوعية في شيء.

بيان الترويكا (الولايات المتحدة وبريطانيا والنرويج):

البيان الذي نشر يوم ٢١مايو حاضاً على تسليم السلطة للمدنيين ومحذراً من أن العلاقات ستتعقد إذا تعذر ذلك، بيان مهم للغاية، فقد ساعدت هذه الدول في التوصل لاتفاقية السلام الشامل ٢٠٠٥ ودستورها المؤقت الديمقراطي.

أما من الناحية العملية، فالعالم يعرف أن توازن القوى داخل البلد المعين هو الأساس.

لقد رفعت الولايات المتحدة العقوبات عن السودان جزئياً أيام حكم البشير، ولم تشترط  الحكومة المدنية قبل رفع اسم السودان من قائمة رعاة الإرهاب، من زاوية أخرى فإن دول الترويكا تتعامل مع مصر بود ويسر رغم ما حدث في ميدان رابعة العدوية.

سيكون العامل الأهم هو  توازن القوى في جبهتنا الداخلية، سيتعامل العالم الخارجي معنا استناداً عليه، نأمل أن يساعد البيان الطرفين على تقديم التنازلات التي تيسر تكوين الحكومة المدنية قبل أو بعد الإضراب المعلن بعد غد.

رجال ومواقف.. علي محمود حسنين:

كان علي محمود حسنين من قادة الطلاب الإسلاميين وكان في السنة النهائية بكلية الحقوق عندما التحقت بكلية الآداب، كنا على طرفي نقيض.

ابتعد عن الإسلاميين كما ابتعدت عن أقصى اليسار، وجمعنا المكتب السياسي للحزب الوطني الاتحادي عند نهاية عهد النميري، صار علي رئيسنا بالانتخاب  واستأجر داراً بالشهداء بأمدرمان، كان بيته بالخرطوم بحري كخلية النحل، وأشهد أنه كان ينفق على الحزب بسخاء من حر ماله، اصطحبني معه عندما دعا العقيد القذافي الحزب قبل الانتخابات التي فاز فيها حزب الامة، كان خطيباً بارعاً في الليالى السياسية ينفعل حتى تسقط عمامته.

لا يعلم كثيرون أنه اقترح “ميثاق الدفاع عن الديمقراطية، “الذي وقعت عليه الجبهة الإسلامية القومية ثم تجاهلته. قابلته في لندن عدة مرات بعد صلاة الجمعة في مسجد ولزدن جرين.

رحم الله علي محمود حسنين السوداني الأصيل والمحامي الرائد والاتحادي المخلص.

زر الذهاب إلى الأعلى