منى أبوزيد تكتب : آلة حاسبة..!

29يناير2022م 

“إن القانون – في مساواته العظيمة! – يمنع الفقراء كما يمنع الأغنياء من النوم تحت الجسور، والشحاذة في الشوارع، وسرقة الخبز”.. أناتول فرانس..!

حكاية هندية ملهمة تقول إن رجلاً كان يجلس في أحد المطاعم، وقبل أن يشرع في تناول الطعام لاحظ أن طفلين فقيرين كانا ينظران إلى صحن طعامه من خلف زجاج المطعم، فنهض من مقعده، ودعاهما إلى مائدة طعامه. بعد انصرافهما، طلب الرجل فاتورة الحساب، فوجد أن صاحب المطعم – الذي كان يرقب الموقف عن كثب – قد كتب عليها الجملة الآتية: “نحن لا نمتلك آلة حاسبة تستطيع أن تحسب ثمن الإنسانية”..!

حكاية سودانية فادحة تروى كثيراً تقول إن أطفال كثراً يخرجون كل صباح إلى المدارس بلا وجبة إفطار. يحدث هذا – ببساطة – لأن الناس في بلادنا قد اعتبروا الدين تراثاً وليس كسباً، ولأنهم ـ والحق أوجب أن يقال ـ يتعاملون مع أرواح نصوص القرآن والسنة من وراء حجاب الأسانيد والعنعنة، ويتعاطون مع قيمة صور الفقراء من خلف غلالة المبررات والفهلوة..!

الخطب التي تحث على الإنفاق تملأ أركان المساجد والصدقات تخرج من جيوب المحسنين طوعاً أو كرهاً، لكنها آفة الفرق بين الحرص على إقامة الشرع والاكتفاء بتأدية الشعائر. مشكلة الفقر في بلادنا ليست في إحجام الناس عن أداء فريضة الزكاة أو إخراج الصدقات، بل في غموض أو عشوائية أوجه إنفاقها، ومدى استحقاق من تذهب إليهم لمبدأ الصدقة..!

بعض الإحصائيات الصادمة عن الفقر في بلادنا توجع كل ضمير حي، والأهم من ذلك أن العمل على محاربة أسبابها شأنٌ يخص كل مواطن يخرج في تصنيفه الاجتماعي عن دائرة الفقراء والمساكين. هي إذن مسؤولية اجتماعية جماعية، هي مسؤولية الإنسان تجاه أخيه الإنسان. لذا – وبعيداً عن ادعاءات المسؤولين ومبررات الحكومة – نحن في هذا البلد بحاجة إلى أن يتبنى “المسؤولون حقاً” من مختلف فئات هذا الشعب برامج توعوية جادة لتعميق أوجه الإنفاق المثمر، وغرس ثقافة ترشيد التبرع والإنفاق. الجوع في هذا البلد يحتاج عوناً ذاتياً والتفافاً شعبياً حول أصل المشكلة. لا يُعقل بأية حال أن يبيت الشحاذون – الذين يمتهنون التسول – وهم متخمون، بينما المتعففون جوعى..!

دعك من أي حكومة، أوقد شمعتك الذاتية، ولا ضير – أبداً – في أن تستمر في لعن هذا الظلام. ضع في حسبانك مثلاً أن تفقد الجيران المتعففين أولى من التصدق على شحاذ تراه يمتهن التسول كل يوم أمام تلك المتاجر..!

دعك من معظم المحتالين الذين يقتحمون مسجد الحي عقب كل صلاة، أجر بنفسك مسحاً ميدانياً على حراس المنازل “تحت التشييد” في منطقة إقامتك، قم بإحصاء عدد الفقراء المتعففين خلف كل باب مغلق. ادفع لهؤلاء ببعض أموالك وادفع لأولئك ببعض طعامك النظيف الساخن بطريقة تحفظ كرامتهم. بعض المخابز توفر خدمة مجانية لأجر مناولة الصدقة، لن يؤثر كيس آخر من الخبز تعلقه في بعض الأحيان على جدار مخبز الحي – بانتظار فقير جائع – على ميزانيتك المثقوبة سلفاً، وعلى أية حال..!

لا يعقل أبداً أن يقتطع معظم الآباء من كل الطبقات شيئاً من ميزانية إنفاقهم لصرفها على حفلات تخريج صغارهم من رياض الأطفال، ومدارس الأساس، بينما أطفال غيرهم لا يجدون ما يسد رمقهم في وجبة إفطار..!

بعض صور الظلم في هذا المجتمع ما عادت مُحتملة، ومعظم الناس في هذا البلد بحاجة إلى صحوة ضمير، تمسك بهم من أكتافهم، وتهزها هزاً بحثاً، عن بعض الإنسانية..!

 

 

 

[email protected]

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى