رحلتي مع الكابلي ١٩٨٠- ٢٠٢٠م

 

بقلم: عبد الرحيم حاج أحمد

لا أدري حتى الآن سر الخطوات التي قادتني حتى تعرّفت على الكابلي وقابلته وصارت لي معه علاقة شخصية، ولا يمكن أبداً بالمنطق أن يتم ذلك لعدة أسباب:

أولها, إن عمري وقتها كان في سن الخامسة عشر، أسكن في قرية تبعد عن الخرطوم مئات الأميال، وكنت طالباً ليس في مدرسة وإنما في خلوة لتحفيظ القرآن الكريم وفيها نقوم بكل أنواع العبادات وأذكار وآداب التصوف، وتلميذ في معهد أتعلم به العلوم الشرعية.

لا أدري كيف تسلّل من خلال ذلك الالتفات إلى سماع أغنيات الكابلي، الشيء الذي أزعج جداً والدي ودعاني حينما سمعني مرة أردد: أكاد لا أصدق، قال لي نحن نريد منك أن تحفظ لنا ألفية ابن مالك وليس الغناء.

كانت الوسيلة للسماع في بادئ الأمر عن طريق الصدفة وأنا أسير على الطريق فاستمعت إلى أغنية من الراديو لا أعرف كلماتها ولا من يغنيها ولكن كانت موسيقاها مؤثرة وكانت الجملة الوحيدة التي فهمتها منها هي: (نضر الله) وكنت أحسب أنها أنشودة دينية لما احتوته من اسم الجلالة، وقد اختزنت الذاكرة ذلكم الصوت الذي بعد متابعات وتداعيات أخرى عرفت أن صاحبه فنان يسمى: عبد الكريم الكابلي.

وبعد تراكمات سماع ازدادت بمرور الأيام ترسخت في ذهني رغبة ملحة في أن أرى والتقي هذا الرجل ولكن كيف لي بذلك؟

ربما قد مرت حوالي ثلاث سنوات استطعت خلالها المجئ إلى الخرطوم وحينها بدأ البحث عن المكان الذي أجده فيه.

فقد علمت أن له محلاً لبيع أشرطة الكاسيت في بحري وعلمت بعد أن زرت المكان أن بيته ليس ببعيد عن هذا المحل واهتديت إلى وصف موقع البيت من الموظفة التي كانت تُدير ذلك المحل وظللت أتردد بين أم درمان وبحري إلى أن جئت ذات مرة وكنت استقل حافلة نقل  فلما جئت بالقرب من المحل وكان اسمه: (كابلي سونيك), لمحت الكابلي يقف إلى جانب سيارته المرسيدس فنزلت من الحافلة وسلّمت عليه وقد كان مشغولاً بأمر ما، لا أذكره ولكنه سلم عليّ بترحاب فعرفته بنفسي ثم ودعته.

ومن هنا بدأ التعارف حيث كنت كلما أجئ إلى الخرطوم أذهب إلى متجر الأشرطة واشتري منه التسجيلات الجديدة واسأل الموظفة إن كان الكابلي موجوداً في السودان, فإذا أكدت لي وجوده ذهبت إليه في البيت وسلمت عليه، وهذا يحدث في كل مرة آتي فيها إلى الخرطوم من كردفان.

*

وأذكر مرة إنني حينما أتيت إليه وودّعته سألني عن وجهتي التي أريد الذهاب إليها فأخبرته بأني ذاهب إلى أم درمان فطلب مني أن انتظره حتى يخرج السيارة وأصحبه إلى أم درمان، وفي الطريق ذكر لي أنه أكمل تلحين أغنية: (كلنا جو يا رسول) لأبي الطيب المتنبي وأنه سوف يقدمها مع الفرقة الموسيقية في أول بروفة باتحاد الفنانين ودعاني لحضور تلك البروفة بعد أن أخبرني بموعدها المحدد.

وكانت فرحتي غامرة بحضور تلك البروفة, حيث أدى تلك الأغنية حوالي عشر مرات لكي تتمكّن الفرقة من حفظ اللحن وكانت البروفة ممتعة جداً لأنها تدخلك إلى عوالم تأليف الألحان وطريقة أدائها الغنائي والموسيقي.

*

واستمرت زياراتي للكابلي خاصة بعد أن سكنت في الخرطوم بعد تأسيسي لشركة الإنتاج الفني التي كنت أنشر من خلالها صوتيات مدائح ودروس أبينا الشيخ عبد الرحيم البرعي.

وكان من حُسن الحظ أن يكون معنا في السوق الأخ العزيز محمد الكابلي والذي كان يُدير شركة الكابلي للإنتاج الفني.

كنت حينما آتي إلى محمد في الشركة يقول لي تعال دقيقة، فنذهب إلى السيارة ويشغل لي آخر تسجيل لوالده ويسألني عن وجهة نظري في التسجيل وتشكيلة الأغاني.

ومما أذكره جيداً أن محمد حينما أسمعني أغاني شريط أمير العود والذي يحوي بعض أغنيات الفنان حسن عطية قال لي محمد إنّ هذا الشريط فيه مساحة فارغة بعد أن يتم اقتسام الأغاني إلى وجهي الشريط: A&B وبحكم تمرسي في هذا المجال قلت لمحمد: دي مشكلة بسيطة، والحل أنك تذهب إلى أبوك وترجعه الأستديو وتخلي يعمل مقدمة للشريط بصوته على عدد دقائق المساحة الفارغة من الشريط، وقد كان كما أشرت لمحمد، فقد ذهب الكابلي إلى الأستديو وسجّل تلك المقدمة الرائعة الذي بدأها بقوله: أستاذي حسن عطية …إلخ.

*

وفي زيارة أخرى له, ذكر لي الأستاذ عبد الكريم الكابلي أنه بصدد تسجيل شريط مدائح نبوية يحوي قصيدة المولد وأعمالاً أخرى وأنه يود أن يضم إليها قصيدة أبينا الشيخ عبد الرحيم البرعي: (جدد وضوكا), وطلب مني أن أحضر له نصّها، فقلت له هات ورقة وقلم وكتبتها له من ذاكرتي، وبعد أشهر قليلة اتصل بي هاتفياً يطلب مني أن آتي إليه لكي آخذ منه عدة نسخ من شريط المولد لكي أوصلها إلى أبينا الشيخ عبد الرحيم البرعي.

*

كان كلما التقيته يطلب مني أن أهيئ له لقاءً مع أبينا الشيخ عبد الرحيم البرعي, وبالفعل وفي إحدى زيارات أبينا الشيخ إلى الخرطوم اتصلت بالكابلي وأبلغته بمجئ أبينا الشيخ, فجاء ومعه زوجته وعندما سلّم على أبينا الشيخ عرّفه بزوجته فسلم عليها أبونا الشيخ وسأل الكابلي قائلاً له ومُداعباً: عندك تاني واحدة ولا دي بس؟ فابتسم الكابلي وقال له: كانت عندي واحدة تاني لكن طلقتها.

*

وحينما أراد السفر إلى أمريكا مكث في القاهرة بعض الوقت لاستلام التأشيرة من السفارة الأمريكية بالقاهرة, وفي تلك الأيام نظم أهل أسوان حفلاً للكابلي في نادي الرماية بالقاهرة واحتشدوا لحضور ذلك الحفل وكُنت وقتها في القاهرة فاتصل بي الأخ الأستاذ وليد بيك وقال لي: أنا عازمك حفلة سيحييها الكابلي فذهبت معه وبعد نهاية الحفل وقبل أن يخرج الكابلي سلمت عليه فبادرني سائلاً: رأيك شنو في شريط (بلد السماحات) فقلت له : زيو مافي، قال لي: أنا سألتك لأنه رأيك بيهمني جداً.

وبعد أن عدت إلى سكني اتصل بي عبر الهاتف وقال لي: إن شاء الله وصلت البيت بسلام فأجبته بأني وصلت بسلام وشكرته.

*

وبعد أن سافر إلى أمريكا أرسل لي رسالة صوتية عبر الماسنجر بث فيها من معاني الوفاء والمحبة ما أعجز عن وصفه، ثم بعد أن حضر إلى السودان في ٢٠٢٠م اتصل بي وتبادلنا التحايا وتواعدنا على اللقاء وأرسل إليّ بطاقة لحضور تكريمه في شركة دال وسعدت بحضور إحدى ليالي التكريم، ولكن لم يشأ الله أن نلتقي معاً في مقر إقامته نسبةً لظهور كورونا وإغلاق العاصمة حتى عاد مرة أخرى إلى الولايات المتحدة الأمريكية.

بكل تأكيد تظل صلتي ومعرفتي بهذا الرجل من المعالم البارزة التي تشكل ملامح حياتي.

وستظل هذه الصلة ممتدة مع أبنائه الذين يسعد أي إنسان بمعرفتهم وصداقتهم.

فاللهم يا رب أغفر له وأرحمه وعافه وأعف عنه ووسِّع مدخله وأكرم نزله في الجنة واجعل البركة في أهله وعقبه وفينا جميعاً، اللهم إن كان محسناً فزد في إحسانه وإن كان مسيئاً فتجاوز عن سيئاته اللهم لا تحرمنا أجره ولا تفتنا بعده وأغفر لنا وله وأغفر للمسلمين والمسلمات الأحياء منهم والأموات.

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى